
بعد أن اتّضحت ساحة عمل الإمام السجّاد عليه السلام أُشير بشكلٍ مختصر إلى الهدف والنّهج الّذي اعتمده الأئمّة عليهم السلام. وبعد ذلك نقوم بدراسة جزئيّات حياة هذا الإمام فيما يتعلّق بهذا النّهج.
ممّا لا شكّ فيه أنّ الهدف النهائيّ للسّجاد عليه السلام كان إيجاد الحكومة الإسلاميّة، وكما جاء في كلام الصادق عليه السلام فإنّ الله تعالى وقّت عام 70 لقيام الحكومة الإسلاميّة، ثمّ بسبب قتل الإمام الحسين عليه السلام سنة 60 فإنّ الله أخّرها إلى سنة 147 ــ 148هـ، فهذا يحكي بوضوح عن أنّ الهدف النهائيّ للإمام السجّاد عليه السلام وسائر الأئمّة كان إيجاد الحكومة الإسلاميّة. ولكن كيف يمكن أن تُقام الحكومة الإسلاميّة في مثل تلك الظّروف؟ إنّ هذا يحتاج إلى عدّة أمور:
1- ينبغي أن تدوّن وتُدرس وتُنشر المدرسة الإسلاميّة الحقيقيّة، الّتي يحمل علمها الأئمّة عليهم السلام، هذه المدرسة الّتي هي أيضًا المبنى الأساس للحكومة الإسلاميّة. بعد أن انفصل المجتمع الإسلاميّ ولمدّة طويلة من الزّمن عن الفكر الإسلاميّ الصّحيح، كيف يمكن إقامة حكومة على أسس الفكر الإسلاميّ الأصيل في حين أنّ الأرضيّة الفكريّة لم يتمّ تحقيقها بين النّاس، ولم تدّون تلك الأحكام الأصيلة؟
إنّ أعظم الأدوار الّتي مارسها الإمام السجّاد عليه السلام هي أنّه دوّن الفكر الأصيل للإسلام: كالتوحيد، والنبوّة، وحقيقة المقام المعنويّ للإنسان، وارتباطه بالله. وأهمّ دور أدّته الصّحيفة السجّادية هو في هذا المجال. فانظروا إلى هذه الصّحيفة، ثمّ جولوا ببصركم في أوضاع النّاس على صعيد الفكر الإسلاميّ في ذلك الزّمن ستجدون مدى المسافة الّتي تفصل بين الاثنين.
ففي ذلك الزّمن الّذي كان يسير فيه المسلمون في كلّ أنحاء العالم الإسلاميّ نحو الحياة المادّيّة والملذّات، بدءًا من شخص الخليفة عبد الملك بن مروان، إلى العلماء المحيطين به (ومن جملتهم محمّد بن شهاب الزهريّ، وسوف أذكر أسماء علماء البلاط فيما بعد)، نزولًا إلى جميع الّذين كانوا يغوصون في بحر الدنيا والماديات، يقف الإمام السجّاد عليه السلام ويقول مخاطبًا النّاس: "أوَلا حرّ يدع هذه اللماظة لأهلها؟".
ففي هذه الجملة يوضح الإمام أنّ الفكر الإسلاميّ الأصيل كان عبارة عن جعل الهدف للمعنويّات، والتحرّك للوصول إلى الأهداف المعنوية والإسلاميّة، وجعل الإنسان يرتبط بالله عبر التكليف. وهذا هو الموقف المقابل تمامًا لحركة النّاس الماديّة في ذلك الزّمن. كان على الإمام السجّاد عليه السلام أن يقوم بعملٍ كبيرٍ لأجل أن يحفظ الفكر الأصيل للإسلام في فضاء المجتمع الإسلاميّ. وكانت هذه الحادثة بداية أعمال الإمام السجّاد عليه السلام.
2- تعريف النّاس إلى أحقّية أولئك الّذين ينبغي أن يتسلّموا زمام الحكم. إذ كيف يُمكن لأهل البيت تشكيل حكومة في الوقت الّذي كان الإعلام والتبليغ ضدّ آل الرسول قد ملأ العالم الإسلاميّ طوال عشرات السنين حتّى عصر الإمام السجّاد عليه السلام، وفيه ظهرت الأحاديث الموضوعة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والّتي تُخالف حركة أهل البيت بل إنّها في بعض الموارد تشتمل على سبّهم ولعنهم، وقد نُشرت بين أناس لم يكن لديهم أي اطّلاع على المقام المعنويّ والواقعيّ لأهل البيت.
لهذا، فإنّ أحد الأهداف والتحرّكات المهمّة للإمام السجّاد عليه السلام كان يرتبط بتعريف النّاس إلى أحقّية أهل البيت، وأنّ مقام الولاية والإمامة والحكومة حقٌّ ثابت لهم وهم الخلفاء الواقعيّون للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا الأمر، إلى جانب أهميّته العقائدية والفكريّة، فإنّ له ماهيّة سياسيّة وهي الارتباط بالحركة السّياسيّة المناهضة للنّظام الحاكم.
3- كان على الإمام السجّاد عليه السلام أن يؤسّس الأجهزة والتشكيلات الّتي يُمكن أن تكون منطلقًا أصليًّا للتحرّكات السّياسيّة المستقبليّة، ففي مجتمعٍ ممزّق، يعيش تحت أنواع القمع والفقر والتضييق الماليّ والمعنويّ، حتّى أنّ الشّيعة عاشوا من الرّعب والتضييق إلى درجة أنّ تشكيلاتهم تلاشت، فكيف يُمكن للإمام السجّاد عليه السلام أن يبدأ عمله وحيدًا أو مع مجموعة قليلة وغير منظّمة؟ لهذا كان همّ الإمام السجاد عليه السلام أن يبدأ بتشكيل هذه التّنظيمات الّتي كانت، برأينا، موجودة منذ أيّام أمير المؤمنين عليه السلام غير أنّها ضعفت وتلاشت إثر واقعة عاشوراء والحرّة وثورة المختار.
بالنتيجة نجد كان للإمام السّجّاد ثلاثة أعمال أساس:
- الأول: تدوين الفكر الإسلاميّ بصورة صحيحة وطبق ما أنزل الله، بعد مرور أزمنة من التحريف والنسيان عليه.
- الثاني: إثبات أحقّية أهل البيت في الخلافة والولاية والإمامة.
- الثالث: إيجاد التشكيلات المنسجمة لأتباع أهل البيت عليهم السلام وأتباع التشيّع.
هذه الأعمال الثلاثة الأساس هي الّتي ينبغي أن ندرسها ونبحث فيها لنرى أيّ واحد منها قد تحقّق في حياة الإمام السجّاد عليه السلام.
إلى جانب هذه الأعمال، كان هناك أعمال أخرى هامشيّة أو ضمنيّة وتحرّكات قام بها الإمام وأتباعه لأجل اختراق ذلك الجوّ المرعب والقمعيّ. ففي ظلّ الإجراءات الأمنية المشدّدة الّتي كان يفرضها الحكم، نلاحظ مواقف عديدة للإمام عليه السلام أو أتباعه كان الهدف منها كسر حواجز القمع وصناعة بعض الأجواء الملائمة واللطيفة، خاصّة مع الأجهزة الحاكمة أو التابعة لها، مثل المواقف الّتي حدثت بين الإمام عليه السلام وعبد الملك عدّة مرات، أو الأمور الّتي جرت مع العلماء المنحرفين والتّابعين لعبد الملك (من قبيل محمّد بن شهاب الزهريّ) كلّ ذلك لأجل خرق ذلك الجوّ المتشدّد.
إنّ الباحث عندما يستعرض الرّوايات، سواء الأخلاقيّة منها أم المواعظ أم الرّسائل الّتي نقلت عن الإمام أو المواقف الّتي صدرت عنه، وذلك على أساس ما بيّناه، فإنّه سوف يجد لها المعاني المناسبة، وبتعبيرٍ آخر سوف يرى أنّ جميع تلك التحرّكات والأقوال كانت ضمن الخطوط الثّلاثة الّتي أشرنا إليها والّتي كانت تصبّ جميعًا في دائرة إقامة الحكومة الإسلاميّة. وبالتأكيد لم يكن الإمام يُفكّر في إيجاد حكومة إسلاميّة في زمانه لأنّه كان يعلم أنّ وقتها في المستقبل، أي في الحقيقة في عصر الإمام الصادق عليه السلام.
(مجلة باسدار اسلام،8)
وبهذه الأعمال الثّلاثة سوف تتهيّأ أرضيّة إقامة الحكومة الإسلاميّة والنّظام العلَويّ. لقد ذكرتُ سابقًا، وأؤكّد على ذلك الآن أيضًا، أنّ الإمام السجّاد عليه السلام لم يكن يرى أنّه سيتمّ تحقيق الحكومة الإسلاميّة في زمانه (وهذا بخلاف ما عمل لأجله الإمام الصادق عليه السلام في زمانه)، فقد كان معلومًا بأنّ الأرضيّة في عصر الإمام السجّاد عليه السلام لم تكن معدّة لذلك، وكان حجم الظّلم والقمع والجهل كبيرًا إلى درجة يصعب معها إزالتهم خلال هذه السّنوات الثلاثين. فكان الإمام السجّاد عليه السلام يعمل للمستقبل. ومن خلال القرائن العديدة، نفهم أيضًا أنّ الإمام الباقر عليه السلام لم يكن يهدف إلى إقامة حكومة إسلاميّة في زمانه، أي أنّه منذ سنة 61 وحتّى 95 هـ (شهادة الإمام السجّاد عليه السلام)، ومنذ سنة 95 وحتّى 114 هـ (شهادة الإمام الباقر عليه السلام)، لم يكن في تصوّر أيّ منهما أنّه ستُقام هذه الحكومة في زمانه، ولهذا كانا يعملان على المدى البعيد.
وسوف نستشهد على هذه الفكرة بكلمات الإمام السجّاد عليه السلام، لأنّها أفضل المصادر وأكثرها أصالة للتعرّف إلى سيرة حياته عليه السلام، بل على حياة كلّ الأئمّة عليهم السلام. غاية الأمر - وكما أشرنا إليه سابقًا - أنّنا نفهم هذه البيانات بصورة صحيحة عندما نطلّع على حركة الأئمّة ومقصدهم من الجهاد والمواجهة والسّعي والسّير، وبغير هذه الصّورة قد نفهم معاني هذه الكلمات - الّتي سوف أُبينّها - مغلوطة. وبعد أن اطّلعنا على بعض تلك الحوادث، والّتي استفدناها ببركة كلمات الأئمّة عليهم السلام، سوف نعتمد على نفس المصادر وسنرى أيّ استنتاجات صحيحة نُحصّلها.
قبل أن ندخل في صلب البحث ينبغي أن نُذكّر بنقطة موجزة وهي أنّه بسبب مرحلة القمع الشّديد الّتي كان يعيشها الإمام السجّاد عليه السلام، لم يستطع أن يُبيّن لنا تلك المفاهيم بصورة واضحة ولذلك كان يستفيد من أسلوب الموعظة والدّعاء (خاصّة أدعية الصحيفة السجّادية الّتي سوف نتعرّض لها فيما بعد والبيانات والروايات الّتي نُقلت عن الإمام عليه السلام والّتي كانت تطغى عليها حالة الموعظة)، حيث كان الإمام ضمن بيان الموعظة والنصّيحة يُبيّن ما أشرنا إليه سابقًا، وبهذا اتّبع الإمام السجّاد عليه السلام منهجًا حكيمًا وشديد الحذاقة. وبذلك الأسلوب الّذي ظاهره موعظة النّاس ونصحهم، أدخل الإمام عليه السلام إلى أذهانهم ما يُريده، وهذا من أفضل أشكال التّعاطي الأيديولوجيّ والفكريّ الصحيح.
المصدر: كتاب إنسان بعمر 250 سنة، للامام الخامنئي، الفصل الثامن: الإمام السجاد (ع)