
من المقاطع المهمّة في حياة الإمام السّجّاد عليه السلام طريقة تصرّفه مع جهاز الخلافة، فهل كان يتصرّف معه بطريقة اعتراضية عدائيّة، أم لا؟ لقد أشرت باختصار في الأبحاث السّابقة إلى هذا الموضوع وهنا سوف أوضح أكثر.
بالقدر الّذي اطّلعت فيه على حياة الإمام السّجّاد عليه السلام والّذي ما زلت أذكره، أنّه لا توجد مواجهة صريحة وقاطعة ضدّ الحكم أو تعريض به، من قبيل ما نُشاهده في حياة بعض الأئمّة الآخرين، كالإمام الصادق عليه السلام في عصر بني أميّة، أو الإمام موسى بن جعفر عليه السلام، وسببه واضحٌ، وهو أنّ مثل هذا التحرّك الشديد الّذي كان في بداية حركة الأئمّة عليهم السلام والذي كان في المرحلة الثّالثة من المراحل الأربع للإمامة، والّتي تبدأ في حياة الإمام السّجّاد عليه السلام، سوف يُعرّض قافلة أهل البيت عليهم السلام الّتي تحمل أعباء مسؤولية الرّسالة للخطر الّذي لا يؤدّي إلى تحقيق المقصد. ففي ذلك الوقت لم يكن بستان أهل البيت الّذي تعهّد الإمام السّجّاد عليه السلام بتربيته ورعايته وسقايته قد استحكمت غصونه وأشجاره، بحيث يقدر على تحمّل الأعاصير الشديدة. وكما أشرت في بداية هذا البحث، فقد كان عدد المحبّين والموالين لأهل البيت عليهم السلام ممّن يُحيطون بالإمام السّجّاد عليه السلام قليلًا جدًّا، وفي ذلك العصر لم يكن من الممكن لأولئك الّذين سيتحمّلون مسؤولية التنظيمات الشّيعيّة أن يواجهوا خطر العدوّ الجائر والّذي هدّدهم بالإبادة.
وإذا أردنا أن نُمثّل، ينبغي أن نُشبّه عصر الإمام السجّاد عليه السلام هذا، بمرحلة بدء الدّعوة الإسلاميّة في مكّة وهي المرحلة السريّة. ولعلّه يُمكن تشبيه عصر الإمام الباقر عليه السلام بالمرحلة الثّانية في مكّة، حين أصبحت الدّعوة علنيّة. والمرحل الّتي أتت من بعدها يُمكن تشبيهها بالمراحل اللاحقة للدّعوة. ولهذا، فإنّ المواجهة في تلك المرحلة لن تكون صحيحة.
وممّا لا شكّ فيه هو أنّه لو كانت قد صدرت عن الإمام السّجّاد عليه السلام المواجهات الحادّة التي نُلاحظها في بعض كلمات الإمام الصادق والإمام الكاظم والإمام الرضا عليهم السلام، لاستطاع عبد الملك بن مروان، الّذي كان في أوج قدرته، وبكلّ سهولة أن يطوي بساط تعاليم أهل البيت عليهم السلام ليبدأ العمل من جديد، فهذا لا يُعدّ عملًا عقلائيًّا يقطع به العقل. لكن على كلّ حال، يُمكن أن نُشاهد في ثنايا كلمات الإمام زين العابدين عليه السلام، والّتي ترجع على وجه الاحتمال إلى أواخر حياته الشريفة وطيلة مدّة إمامته، إشارات أو مظاهر لتعرّضه ومواجهته لنظام الحكم .
كانت تلك المواجهات تظهر بعدّة أشكال. وأحد أشكالها هو ما لاحظناه في تعامل الإمام السجّاد عليه السلام مع محمّد بن شهاب الزهريّ. والشكل الآخر، يظهر من خلال بيان موقف ومكانة الخلفاء الأمويّين على ضوء التعاليم والإرشادات الدينيّة العاديّة. ويوجد حديث عن الإمام الصادق عليه السلام يقول فيه: "إنّ بني أميّة أطلقوا للنّاس تعليم الإيمان ولم يُطلقوا تعليم الشّرك حتّى إذا حملوهم عليه لم يعرفوه" . فبنو أميّة كانوا يسمحون للعلماء وأهل الدين، ومن جملتهم الأئمّة عليهم السلام، بالتحدّث حول الصلاة والحجّ والزّكاة والصّيام والعبادات، وكذلك حول التّوحيد والنبوّة والأحكام الإلهيّة. لكنّهم لم يسمحوا بالبحث في مفهوم الشّرك ومصاديقه وأمثلته في المجتمع.
فلو كانت تلك التعاليم المرتبطة بالشّرك دُرِّست للنّاس، لفهموا مباشرة من هم المشركون، وإنّ ما يحملهم عليه بنو أميّة ليس سوى الشرك. ولعلموا فورًا أنّ عبد الملك والخلفاء الباقين من بني أميّة هم طواغيت يُبارزون الله، وأنّ إطاعتهم تُعدّ شركًا بالله. ولهذا لم يكونوا ليسمحوا بتعلّم هذه المفاهيم.
نحن عندما نبحث حول التّوحيد في الدّين الإسلاميّ، فإنّ قسمًا مهمًّا من هذا البحث يرتبط بمعرفة الشّرك والمشرك، ما هو الصّنم ومن هو الّذي يعبد الأصنام.
وللمرحوم العلّامة المجلسيّ رحمه الله في بحار الأنوار نصٌّ رائع يقول فيه: "إنّ آيات الشّرك ظاهرها في الأصنام الظّاهرة، وباطنها في خلفاء الجور الّذين أشركوا مع أئمّة الحقّ ونُصّبوا مكانهم". فأئمّة الحقّ هم خلفاء الله وهم ينطقون عن الله، ولأنّ خلفاء الجور قد نصّبوا أنفسهم مكانهم وادّعوا الإمامة، فقد أصبحوا أصنامًا وطواغيت، فكلّ من يُطيعهم يُعدّ مشركًا بالله.
وللعلّامة بعد هذا شرحٌ قيّم. فهو يُبيّن أنّ الآيات القرآنية ليست مختصّة بعصر الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، بل هي سارية وجارية في كلّ العصور والأزمان: "فهو يجري في أقوام تركوا طاعة أئمّة الحقّ، واتّبعوا أئمّة الجور لعدولهم عن الأدلّة العقليّة والنقليّة واتّباعهم الأهواء، وعدولهم عن النصوص الجليّة" . مثل أنّه لا يُمكن لعبد الملك أن يكون حاكمًا على المسلمين وخليفة لهم، فالنّاس كانوا يرون أنّ الحياة الوادعة بعيدًا عن التعرّض للحاكم هي الحياة المريحة لهم، لهذا سلكوا هذه الحياة واتّبعوا أئمّة الجور. ولهذا كانوا مشركين.
ومن هنا نرى أنّ الأئمّة عليهم السلام إذا أرادوا أن يُبيّنوا حقيقة الشّرك فإنّهم بذلك يقومون بما يُشبه المواجهة مع نظام الحكم. وهذا ما يظهر في كلمات الإمام السجّاد عليه السلام.
ونموذج آخر من تلك الأمثلة في المواجهة: ما نُشاهده في المكاتبات والرسائل بين الإمام السجّاد عليه السلام وعبد الملك (الخليفة الأمويّ المتجبّر)، أُشير إلى اثنين منهما هنا:
1- (النموذج الأول): في إحدى المرّات يكتب عبد الملك رسالة إلى الإمام السّجّاد عليه السلام يلومه فيها على زواجه من إحدى جواريه. وكان للإمام عليه السلام جارية أعتقها ثمّ تزوّجها. فشمت به عبد الملك. وكان عمل الإمام عليه السلام عملًا إنسانيًّا وإسلاميًّا صرفًا. ولكنّ دافع عبد الملك من تلك الرسالة كان التعرّض للإمام عليه السلام، وإفهامه بأنّه مطّلع على مسائله الخاصّة موجّهًا له بذلك تهديدًا ضمنيًّا. فأجابه الإمام عليه السلام برسالة بدأها بتوجيه أمر الزواج وأنّ العظام يفعلون مثل هذا الأمر، وأنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد قام به: "فلا لؤم على امرئٍ مسلمٍ إنّما اللؤم لؤم الجاهليّة" . وهو يريد أن يُذكّره بسوابق أجداده في الجاهليّة (من كفرهم وعنادهم)...
عندما وصلت الرسالة إلى عبد الملك، كان ابنه سليمان حاضرًا، وعندما قرأها سمعه، وسمع ذمّ الإمام وأحسّ به مثل أبيه، فالتفت إليه قائلًا: يا أمير المؤمنين! أترى كيف يتفاخر عليك عليّ بن الحسين؟ يريد بذلك أن يُحرّض والده على ردّ فعل شديد. ولكنّ عبد الملك كان أعقل من ولده فقال له: لا تقل شيئًا يا ولدي! فهذا لسان بني هاشم الّذي يفلق الصخر. (أي أنّ استدلالهم قويّ وقاسٍ).
2.(النموذج الثاني): المراسلة الأخرى الّتي تمّت بين الإمام السجّاد عليه السلام وعبد الملك، حيث علم عبد الملك أنّ سيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم موجود عند الإمام عليه السلام. وكان هذا أمرًا ملفتًا لأنّه تذكار النّبيّ وباعثٌ على التّفاخر. وكذلك فإنّ وجوده يُعدّ خطرًا على الخليفة، لأنّه يجلب أنظار النّاس إليه، فكتب إليه يطلب منه تسليم السّيف، ووعده بإنجاز ما يريد أي أنّه مستعدٌّ أن يهبه ما يحتاج.
ردّ الإمام عليه السلام طلبه، فأعاد عبد الملك مرّةً ثانية تهديده بوقف حصّة الإمام من بيت المال إن لم يُرسل السيف . فأجابه الإمام عليه السلام: "أمّا بعد فإنّ الله ضمن للمتّقين المخرج من حيث يكرهون والرّزق من حيث لا يحتسبون وقال جلّ ذكره: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾ فانظر أيّنا أولى بهذه الآية" .
وهذه لهجة قاسية جدًّا تجاه الخليفة، لأنّ تلك الرّسالة إذا وقعت بيد أيّ إنسان فسوف يعلم أوّلًا: أنّ الإمام عليه السلام لا يعدّ نفسه خوّانًا. ثانيًا: لا يتصوّر أحد هذا الأمر بحقّ هذا الإنسان الجليل الّذي تربّى في بيت النبوّة. وهذا يعني أنّك أنت أيّها الخليفة خوّان وكفور. وإلى هذا الحدّ كان الإمام شديدًا مقابل التّهديد.
كان هذان نموذجين من نماذج مواجهة الإمام لجهاز الحكم الأمويّ.
وإذا أردنا أن نُضيف نموذجًا آخر ينبغي أن ننظر إلى الأشعار الّتي نُقلت عن أصحاب الإمام السجّاد عليه السلام ومحبّيه، فهي تُمثّل نوعًا آخر من المواجهة. مواجهة أصحاب الإمام السجّاد عليه السلام ومحبّيه من قبيل الفرزدق ويحيى بن أمّ الطويل للنّظام الحاكم كان يُعدّ نوعًا من مواجهة الإمام للحكم ويُمكن اعتبار شعر الفرزدق نموذجًا آخرًا.
فقد نقل المؤرّخون والمحدّثون قصّة الفرزدق (ما ملخّصها):
عندما قدم هشام بن عبد الملك قبل فترة خلافته إلى الحجّ، وأثناء الطّواف أراد أن يتقدّم لاستلام الحجر الأسود، ولكنّ الحشد الهائل والازدحام الكبير منعه من الوصول، رغم محاولاته المتكرّرة مع أنّه كان ابن الخليفة ومحاطًا بالمرافقين والحرّاس والحواشي، ولكنّ النّاس كانوا يمرّون من حوله دون اكتراث. فيئس من استلام الحجر، وقعد جانبًا منتظرًا انصراف النّاس، وكان أصحابه جالسين حوله. وفي هذه الأثناء يأتي رجلٌ يعلوه الوقار والهيبة، سيماؤه سيماء الزاهدين ووجهه وجه الملكوتيّين، يسطع من بين الحجّاج كالشمس فتنحّى النّاس له جانبًا ليمرّ من بينهم ويصل إلى الحجر الأسود فيُقبّله ثمّ يرجع للطواف مجدّدًا.
فصعب ذلك على هشام كثيرًا، وهو يرى نفسه ابن الخليفة ولا أحد يُعطيه أيّة قيمة، بل يُبعدونه بالركل والمطاحنة، ثمّ من جانبٍ آخر يظهر رجل يصل إلى الحجر الأسود بكلّ هدوء. فسأل غاضبًا: من هذا؟ وكان حواشيه يعرفون أنّه عليّ بن الحسين عليه السلام ولكن لئلّا يغضب منهم لم يقولوا شيئًا لأنّهم يعلمون بوجود العداء المتجذّر بين بني أميّة وبني هاشم، فلم يريدوا أن يقولوا إنّ هذا كبير العائلة المعادية لكم، والنّاس يُظهرون له كلّ هذا الحبّ والاحترام لأنّهم اعتبروا ذلك نوعًا من الإهانة لهشام.
كان الشاعر الفرزدق، من المحبيّن لأهل البيت، حاضرًا هناك وقد رأى تجاهلهم وإنكارهم لعليّ بن الحسين عليه السلام فتقدّم قائلًا: أيّها الأمير، هل تسمح لي بأن أُعرّفك به.
فقال هشام: قل، فانطلق لسان الفرزدق بقصيدة من أشهر القصائد الشّعريّة الّتي قيلت بحقّ أهل البيت، وبدأها بهذا البيت:
هذا الّذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحلّ والحرم
وكانت أبيات هذه القصيدة كوقع السّيوف على قلب هشام فغضب منه وطرده. من جانبٍ آخر أرسل إليه الإمام عليه السلام مالًا فلم يقبله وقال: "ما قُلته لله لا أُريد عليه مالاً".
وهكذا نُشاهد مثل هذه المواجهات عند أصحاب الإمام. ونموذجٌ آخر ما قام به يحيى بن أمّ الطويل. كان يحيى بن أمّ الطويل من الشّباب ذوي البأس الشّديد والشّجاعة الفائقة وأحد المخلصين لأهل البيت عليهم السلام، وكان يذهب إلى الكوفة دومًا ويجمع النّاس ويصرخ فيهم: "أيها النّاس، إنّني كافر بكم ولا أقبل بكم حتّى تؤمنوا بالله"، وهو يقصد أولئك الّذين كانوا يتّبعون بني أميّة. ومثل هذه الاعتراضات المتجلّية في حياة الإمام السّجّاد عليه السلام وأصحابه كان مشهودًا.
(مجلة باسدار اسلام، 12)
المصدر: كتاب إنسان بعمر 250 سنة، للامام الخامنئي، الفصل الثامن: الإمام السجاد (ع)