إنسان بعمر 250 سنة | بعثة النبي.. المراحل الأربع لمسيرة الإمامة 02

ظهرت مسيرة الإمامة منذ اليوم الأوّل لرحيل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم - في شهر صفر من السنة الحادية عشرة للهجرة - واستمرّت حتّى عام وفاة الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام - في شهر ربيع الأوّل سنة 260 هـ - وسط مجتمع المسلمين. وطوت المسيرة، خلال هذه السنوات، أربع مراحل بصورة تقريبيّة، وكان لكلّ مرحلة خصائصها بلحاظ مواقف الأئمّة عليهم السلام مقابل القوى السّياسيّة المهيمنة.

 

المرحلة الأولى: هي مرحلة السكوت، أو مرحلة التّعاون مع الحكّام والسّلطات. 

 

تميّزت هذه المرحلة بأنّ المجتمع الإسلاميّ الحديث الولادة والفتيّ كان محفوفًا بأعداءٍ مقتدرين تربّصوا بالإسلام من الخارج، وبوجود عناصر من جماعات حديثة العهد بالإسلام، لا تتحمّل أن ترى تشتّتًا في المجتمع الإسلاميّ، وكلّ ثغرة في جسد الأمّة كانت تُشكّل تهديدًا لأساس المجتمع الإسلاميّ ووجوده. ومن جانبٍ آخر، لم يكن منحنى انحراف الواقع عن الحقيقة كبيرًا بحيث لم يعد قابلًا للتحمّل بالنسبة لشخص مثل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ـ الّذي هو أحرص النّاس على سلامة الرّسالة وسلامة المجتمع الإسلاميّ وأكثرهم التزامًا بها - ولعلّ هذه الحالة الّتي حدثت في المجتمع الإسلاميّ، هي الّتي أشار إليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين أوصى تلميذه الفذّ بالصبر عند وقوعها .

 

لقد استوعبت هذه المرحلة الّتي امتدت لـ 25 سنة حياة الإمام عليّ عليه السلام منذ وفاة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم - عام 11 للهجرة - حتّى تولّيه الخلافة - سنة 35 للهجرة. وقد شرح الإمام موقفه في هذه المرحلة من خلال الكتاب الّذي وجّهه إلى أهالي مصر، عبر مالك الأشتر عندما ولاّه إمارتها، حيث جاء فيه: "فأمسكت يدي، حتّى رأيت راجعة النّاس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلمًا أو هدمًا تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم،... فنهضت في تلك الأحداث" .

 

إنّ حياة أمير المؤمنين عليه السلام في هذه السنوات الـ 25 لهذه المرحلة، تحكي عن التدخّل الفعّال والدّعم والعون الناتج من الحرص الكبير على الإسلام ومجتمع المسلمين. إنّ أجوبة وإرشادات هذا الإمام لخلفاء زمانه، فيما يتعلّق بالقضايا السّياسيّة والاجتماعيّة وغيرها، قد نُقلت في نهج البلاغة وغيرها من كتب الحديث والتّاريخ، وهي شاهدة على عدم تردّده في هذا النهج.

 

المرحلة الثانية: هي مرحلة تسلّم الحكم ووصول الإمام إلى السّلطة.

 

وقد استغرقت (هذه المرحلة) أربعة أعوام وتسعة أشهر من خلافة أمير المؤمنين عليّ عليه السلام. وبضعة أشهر من خلافة ولده الحسن عليه السلام. ورغم قصر هذه المرحلة وما اكتنفته من آلام وهموم ومشاكل ومصاعب لا تُحصى ولا تنفكّ عادة عن كلّ حكومة ثوريّة، إلّا أنّها سجّلت أنصع الصفحات وأروعها في تاريخ الحكومة الإسلاميّة، بما قدّمته من طريقة إنسانيّة في التّعامل، ومن عدلٍ مطلق والتزامٍ دقيق بأحكام الإسلام وبأبعاده المختلفة في إدارة المجتمع الإسلاميّ. هذا إلى جانب الحزم والصّراحة والجرأة في التّطبيق واتّخاذ المواقف.

 

إنّ هذه المرحلة من تاريخ الإمامة كانت النموذج الّذي دعا أئمّة أهل البيت عليهم السلام، خلال القرنين التاليين، إلى تطبيقه في الحياة السّياسيّة والاجتماعيّة وسعوا على طريقه. وكان الشّيعة يذكرون مثل هذه الذكرى العظيمة ويتحسّرون عليها، ويندّدون بالأنظمة الّتي تلتها عند مقارنتها بها. في الوقت نفسه، كانت درسًا وتجربةً ملهمة يمكن أن تدلّ على وضع وأحوال أيّة حكومة ثوريّة وإسلاميّة صرفة داخل مجتمعٍ وجماعةٍ لم تتربَّ أو انجرّت نحو الانحراف، ومنذ ذلك الوقت كانت تُفرض الأساليب والمناهج البعيدة المدى والمتلازمة مع كلّ أنواع التربية الصعبة والحزبيّة الشديدة على الأئمّة اللاحقين.


 
المرحلة الثالثة: هي الّتي استوعبت السّنوات العشرين بين صلح الإمام الحسن عليه السلام سنة41 هـ، وشهادة الإمام الحسين عليه السلام سنة 61 هـ.

 

فبعد صلح الإمام الحسن عليه السلام، بدأ نوعٌ من العمل شبه السرّيّ للشّيعة، كان هدفه إعادة القيادة الإسلاميّة إلى عترة النبيّ في الفرصة المناسبة. وهذه الفرصة، ووفق الاستنتاج الطبيعيّ، لم تكن بعيدة المنال وكان تحقّقها مأمولًا بعد انتهاء حياة معاوية الشرّيرة، لهذا، يمكن تسمية المرحلة الثالثة بـ "مرحلة السّعي البنّاء القصير المدى لإيجاد الحكومة والنّظام الإسلاميّ" .

 

المرحلة الرّابعة: وهي مرحلة متابعة ذلك النّهج في برنامجٍ بعيد المدى، في زمنٍ قارب القرنين، شهد انتصاراتٍ وهزائم في مراحل مختلفة، وتلازم مع الانتصار القاطع في مجال العمل الأيديولوجيّ، وامتزج بمئات التكتيكات المتناسبة مع الزّمان، والمزيّنة بآلاف مظاهر الإخلاص والتضحية وعظمة الإنسان الّذي يريده الإسلام.

(قيادة الإمام الصادق عليه السلام، ص 16ــ 19)

 

إنّ أهمّ شيء في حياة الأئمّة عليهم السلام، ممّا لم يتمّ الالتفات إليه بصورةٍ لائقة، هو عنصر الجهاد السياسيّ الحادّ في بداية النصف الثاني من القرن الأوّل للهجرة، حينما امتزجت الخلافة الإسلاميّة وبصورة علنيّة بزخارف السلطنة والملكيّة وتبدّلت الإمامة الإسلاميّة إلى حكومة ملكية جائرة. هناك شدّد أئمّة أهل البيت عليهم السلام نضالهم السياسيّ بما يتناسب مع الأوضاع والظّروف. وكان الهدف الأكبر لهذا النّضال هو تشكيل النّظام الإسلامي وتأسيس الحكومة على أساس الإمامة. ولا شكّ بأنّ تبيين وتفسير الدّين بحسب الرؤية الخاصّة لأهل بيت الوحي، ورفع التّحريفات والتّفسيرات المغلوطة للمعارف الإسلاميّة والأحكام الدينيّة، كانت أيضًا هدفًا مهمًّا لجهاد أهل البيت عليهم السلام. إلّا أنّه طبق القرآئن الحتميّة، لم يكن جهاد أهل البيت منحصرًا بهذه الأهداف، ولم يكن لديهم هدف أعظم من هدف "تشكيل الحكومة العلويّة" وتأسيس النّظام الإسلاميّ العادل. وإنّ أشدّ الصعاب التي واجهها الأئمّة وأنصارهم، في حياتهم المليئة بالمرارة والإيثار، كانت بسبب امتلاك مثل هذا الهدف، وقد كانوا منذ عهد الإمام السجّاد عليه السلام وبعد واقعة عاشوراء ينهضون لتأمين الأرضيّة المناسبة البعيدة المدى لتحقّق هذا الهدف.

 

وقد كان التيّار المرتبط بأئمّة أهل البيت عليهم السلام - أي الشّيعة - يُعتبر العدوّ الأكبر والأخطر للأجهزة الحاكمة، في جميع مراحل المائة وأربعين سنة، ما بين واقعة عاشوراء وقضية ولاية العهد للإمام الثامن. ولقد تأمّنت الظّروف والأرضيّة المناسبة في تلك المدّة عدّة مرّات، واقترب نضال التشيّع، الّذي ينبغي تسميته بالنهضة العلويّة، من الانتصارات الكبرى. ولكن في كلّ مرّة كانت تبرز الموانع على طريق النّصر النهائيّ. وفي الأغلب، فإنّ أكبر الضّربات كانت توجّه إلى المحور والمركز الأساس لهذه النهضة، وهو شخص الإمام في كلّ زمان، من خلال سجنه أو قتله. وعندما كان الدّور يصل إلى الإمام اللاحق كان القمع والضّغط والتّشديد يصل إلى حدّ يتطلّب زمانًا أطول من أجل تهيئة وإعداد الأرضيّة المناسبة. 

 
وقد تمكّن الأئمّة من تثبيت التشيّع وسط هذا الإعصار الشديد لهذه الأحداث بكلّ شجاعة وحكمة، كتيّارٍ صغيرٍ لكنّه عميقٌ وقويٌّ وثابتٌ وسط تلك المعابر الشديدة والخطرة. ولم يتمكّن الحكّام الأمويّون والعبّاسيّون من القضاء على تيّار الإمامة بقتلهم الإمام. وقد بقي هذا الخنجر الحادّ دومًا في خاصرة أجهزة الحكم، ويقضّ مضاجعهم بشكل دائم.

(09/08/1984)

 


المصدر: كتاب إنسان بعمر 250 سنة، للامام الخامنئي، الفصل الثاني: الإمامة

2025-04-21 | 5 قراءة