إنسان بعمر 250 سنة | الإمامة في الفكر الشّيعيّ 01

الإمامة في الإسلام
الإمامة هي تلك القمّة للمعنى المنشود من إدارة المجتمع، قِبَال ضروب وأصناف الإدارة المنبثقة من مكامن الضّعف والشّهوة والحميّة في الإنسان ومطامعه. والإسلام يطرح أمام البشريّة نهج الإمامة ووصفتها، أي ذلك الإنسان الطّافح قلبه بفيض الهداية الإلهيّة، العارف بعلوم الدّين المتميّز بفهمه ـ أي الّذي يُجيد تشخيص الطّريق الصّحيح ـ ذو القوّة في عمله ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ﴾ ، ولا وزن لديه لنفسه ورغباته الشّخصيّة، في حين أنّ أرواح النّاس وحياتهم وسعادتهم تُمثّل كلّ ما لديه. وهذا ما عبّر عنه أمير المؤمنين عليه السلام عمليًّا أثناء حكمه الّذي استمرّ أقل من خمس سنوات. تلك الفترة الّتي كانت أقل من خمس سنوات، تُمثّل أنموذجًا يُحتذى لن تنساه البشريّة أبدًا، وسيبقى خالدًا وضّاءً لقرونٍ متمادية. وهذه هي ثمرة واقعة الغدير، والدّرس والمغزى والتّفسير المستقى منها.

(03/03/2002)


 إنّ كلمة "الإمامة" الّتي تعني في الأصل القيادة بمعناها المطلق، غالبًا ما تُطلق في الفكر الإسلاميّ على مصداقها الخاصّ، وهو القيـادة في الشّؤون الاجتماعيّة والفكريّة والسّياسيّة. وأينما وردت في القرآن مشتقّات لكلمة الإمامة ـ كإمام، وأئمّة ـ يُراد بها هذا المعنى الخاصّ، أي قيادة الأمّة وقدوتها. سواءً القيادة الفكريّة، أم القيادة السّياسيّة، أم الاثنين معًا. وبعد رحيل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وظهور الانشقاق الفكريّ والسياسيّ بين المسلمين، اتّخذت كلمة الإمامة والإمام مكانة خاصّة، حيث إنّ مسألة القيادة السّياسيّة شكّلت المحور الأساس للاختلاف. وكان لهذه الكلمة في البداية مدلولها السياسيّ أكثر من أيّ مدلولٍ آخر، ثمّ انضمّت إليها بالتدريج معانٍ أخرى، حتّى أصبحت مسألة "الإمامة" تُشكّل في القرن الثاني الهجريّ أهمّ مسائل المدارس الكلاميّة ذات الاتّجاهات الفكريّة المختلفة، وكانت هذه المدارس تطرح أراءها بشأن شروط الإمام وخصائصه، أي شروط الحاكم في المجتمع الإسلاميّ، وهو معنًى سياسيّ للإمامة. في هذه القضيّة، جرت العادة أن يتمّ الحديث عن شروط وخصائص الإمام ـ أي حاكم المجتمع وزعيمه ـ وكان لكلّ فرقة في هذا المجال عقيدة وكلام.

 

إنّ للإمامة في مدرسة التشيّع ـ الّتي يرى أتباعها أنّها أكثر القضايا الفكريّة الإسلاميّة أصالةً ـ المعنى نفسه أيضًا. وتتلخّص نظريّة هذه المدرسة بشأن الإمام بما يلي:


يجب أن يكون الإمام والزعيم السياسيّ في المجتمع الإسلاميّ منصوبًا من الله، بإعلانٍ من النبيّ، وأن يكون قائدًا فكريًّا ومفسّرًا للقرآن وعالمًا بكلّ دقائق الدّين ورموزه، وأن يكون معصومًا مبرأً من كلّ عيب خَلقيّ وأخلاقيّ وسببيّ، ويجب أن يكون من سلالة طاهرة ونقيّة، ويجب، ويجب...وبذلك فإنّ الإمامة في عُرف مسلمي القرن الأوّل والثاني كانت تعني القيادة السّياسيّة، وفي العرف الخاصّ بأتباع أهل البيت، تعني إضافةً إلى القيادة السّياسيّة، القيادة الفكريّة والأخلاقيّة أيضًا.

 

فالشّيعة تعترف بإمامة الفرد حين يكون ذلك الفرد متمتّعًا بخصائص هي ــ إضافةً إلى مقدرته على إدارة الأمور الاجتماعيّة ــ مقدرته على التّوجيه والإرشاد والتّعليم في الحقل الفكريّ والدينيّ، والتزكية الأخلاقيّة. وما لم تتوفّر فيه هذه المقدرة لا يمكن أن يُعترف به كإمام بحقّ. وفي نظرهم، لا يكفي حسن الإدارة السّياسيّة والاقتدار العسكريّ والصّلاح وفتح البلدان وأمثالها من الخصائص.

 

إذًا، بناءً على فهم الشّيعة للإمامة، فإنّ إمام أيّ مجتمع هو تلك القدرة الفائقة الّتي توجّه وتقود الحركة الجمعيّة والفرديّة لأبناء المجتمع وفي الوقت نفسه يكون معلّم الدين والأخلاق والموجّه لحياة النّاس ومساعيهم. ومن هنا، كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إمامًا أيضًا، لأنّه كان القائد الفكريّ والسياسيّ للمجتمع الّذي أقام بنفسه دعائمه. وبعد النبيّ، تحتاج الأمّة إلى إمام يخلفه ويتحمّل عبء مسؤوليّاته، (بما في ذلك المسؤوليّة السّياسيّة). ويعتقد الشّيعة أنّ النبيّ نصّ على خلافة عليّ بن أبي طالب عليه السلام، ثمّ تنتقل الإمامة من بعده إلى الأئمّة المعصومين من ولده (ولأجل المزيد من التفاصيل والأدلّة ينبغي الرجوع إلى الكتب المتعلّقة بهذا المجال).

 

ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ تداخل المهامّ الثّلاث للإمامة: القيادة السّياسيّة، والتعليم الدينيّ، والتهذيب الأخلاقيّ والرّوحيّ في الخلافة والحكومة الإسلاميّة ـ حيث جُعلت الإمامة والحكومة الإسلاميّة ذات أبعاد وجوانب ثلاثة، كما بيّنه بعض المفكّرين البارزين في هذا الزّمان تبيانًا صحيحًا ـ ناشئ من عدم وجود تفكيك بين هذه الجوانب الثّلاثة في المشروع الإسلاميّ للحياة البشريّة. فقيادة الأمّة يجب أن تشمل هذه الحقول الثّلاثة أيضًا. وبسبب هذه السّعة وهذه الشموليّة في مفهوم الإمامة لدى الشّيعة، كان لا بدّ أن يُعيَّن الإمام من قِبَل الله سبحانه.

 

نستنتج ممّا سبق أنّ الإمامة ليست، كما يراها أصحاب النظرة السّطحيّة، مفهومًا مقابلًا لـ "الخلافة" و"الحكومة"، أو منصبًا منحصرًا بالأمور المعنويّة والروحيّة والفكريّة، وإنّما في الفكر الشيعيّ تعني "قيادة الأمّة" في شؤون دنياها وما يرتبط بذلك من تنظيم للحياة الاجتماعيّة والسّياسيّة للنّاس في المجتمع (رئيس الدولة)، وأيضًا في شؤون التّعليم والإرشاد والتّوجيه المعنويّ والروحيّ، وحلّ المشاكل الفكريّة وتبيين الأيديولوجية الإسلاميّة، "القائد الفكريّ".

 

هذه المسألة الواضحة أضحت، مع الأسف، غريبة على أذهان أكثر المعتقدين بالإمامة، ولذلك نرى أنّ عرض بعض النماذج من مئات الأدلّة القرآنية والحديثيّة، ليس بالأمر الكثير كما يبدو، في هذا المجال: في كتاب "الحجّة" من "الكافي" حديثٌ مفصّل عن الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام يذكر فيه بالتفصيل ما يرتبط بمعرفة الإمام ووصف الإمام، ويتضمّن معاني عميقة ورائعة.

 

من ذلك ما ورد بشأن الإمامة من أنّها: "منزلة الأنبياء، وإرث الأوصياء، إنّ الإمامة خلافة الله، وخلافة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ومقام أمير المؤمنين عليه السلام وميراث الحسن والحسين عليهما السلام، إنّ الإمامة زمام الدين ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا، وعزّ المؤمنين، إنّ الإمامة أسّ الإسلام النامي، وفرعه السّامي، بالإمام تمام الصلاة والزّكاة والصيام والحجّ والجهاد، وتوفير الفيء والصدقات، وإمضاء الحدود والأحكام، ومنع الثغور والأطراف".

 

وحول الإمام أنّه: "النجم الهادي، والماء العذب، والمنجي من الرّدى، والسّحاب الماطر، ومفزع العباد في الدّاهية، وأمين الله في خلقه، وحجّته على عباده، وخليفته في بلاده، والدّاعي إلى الله، والذابّ عن حرم الله، ونظام الدين، وعزّ المسلمين، وغيظ المنافقين، وبوار الكافرين" .

 

وفي روايةٍ أخرى عن الإمام الصادق ذكر صراحةً: أنّ كلّ ما كان يُمارسه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من مسؤوليّات ومهامّ يتحمّلها الإمام عليّ عليه السلام والأئمّة من ولده أيضًا .

 

وفي روايةٍ أخرى عن الإمام الصّادق عليه السلام نرى تأكيدًا على إطاعة "الأوصياء"، وتوضح الرواية  أنّ الأوصياء هم أنفسهم الّذين عبّر عنهم القرآن بـ ﴿أُوْلِي الأَمْرِ﴾ .
 

إنّ مئات الروايات المتفرّقّة في الأبواب والكتب المختلفة، تُصرّح أنّ مفهوم الإمام والإمامة في الثّقافة الشيعيّة ما هو إلّا القيادة وإدارة شؤون الأمّة المسلمة، وأنّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام هم الأصحاب الحقيقيّون للحكومة. وتدلّ جميع (هذه الروايات)، بما لا يُبقي أيّ شكّ أو ترديد، لأيّ باحثٍ منصف، على أنّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام في ادّعائهم الإمامة ذهبوا إلى ما هو أبعد من المقام الفكريّ والمعنويّ، ليُطالبوا بالحكومة أيضًا كحقٍّ ثابتٍ لهم. ودعوتهم على هذا النطاق الواسع الشامل إنّما هي دعوة لنضالٍ سياسيّ عسكريّ لتسلّم السّلطة.

(قيادة الصادق عليه السلام، ص96 -47)

 

الإمامة والحكومة


لو تصوّر أحدٌ أنّه لم يكن للأئمّة من الإمام السجّاد إلى الإمام العسكريّ عليه السلام، سوى ذكر أحكام الدّين ومعارفه، وأنّه لم يكن لهم أيّ نوع من الجهاد السياسيّ بما يتناسب مع زمانهم، فإنّه حتمًا لا يكون قد حقّق غورًا كافيًا في حياة هؤلاء العظماء. فهذا ما يبرز بوضوح من أحوال هؤلاء العظماء. وفي الأساس لا يمكن قبول معنى الإمامة في الإسلام وفي الفلسفة الّتي يطرحها الشّيعة حولها سوى من هذا الطّريق وبما يتناسب معه. وحتّى لو لم يكن لدينا دليلٌ واضحٌ على جهاد الأئمّة، ينبغي أن نعتقد أنّه وإن لم يكن لدينا علم ولم يصلنا، فإنّهم كانوا يجاهدون.

 

ولا يمكن أن نعلم بوجود معنًى للإمامة على هذا النّحو في ثقافة الإسلام ـ ليس فقط في ثقافة التشيّع - وأن نكون معتقدين به وفي الوقت نفسه نقبل مثلًا بأنّ أئمّتنا عليهم السلام، جلسوا في بيوتهم طيلة المئة والخمسين سنة أو أكثر، ووضعوا كفًّا على كف وشغلوا أنفسهم ببيان أحكام القرآن والمعارف الإسلاميّة دون أن يكون لهم أيّ مواجهة سياسيّة، فمثل هذا الشيء ليس صحيحًا بأيّ شكلٍ من الأشكال. بالطبع، عندما نقول إنّ الأئمّة جاهدوا، يجب علينا أن نلتفت إلى أنّ الجهاد يكون في كلّ زمانٍ بشكلٍ خاصّ. فأحيانًا، يكون الجهاد من خلال العمل الثقافيّ، والعلميّ، والسياسيّ، والتنظيميّ، والحزبيّ، وتأسيس المنظّمات، وأحيانًا أخرى من خلال الأعمال الدمويّة والأنشطة العسكريّة والقتال الظاهريّ. وفي كلّ زمانٍ جهادٌ بنحوٍ ما.

(31/07/1987)


من الممكن أن يُشكل البعض قائلًا: كيف كان الأئمّة عليهم السلام يُجاهدون ويُناضلون من أجل الإمساك بالحكومة، في حين أنّهم كانوا يعلمون بعلمهم الإلهيّ بأنّهم لن يصلوا إلى الحكومة؟ فمن المعلوم أنّ حياة الأئمّة عليهم السلام تدلّ على أنّهم لم يتمكّنوا من الوصول إلى الحكومة، ولم يُشكّلوا المجتمع والنّظام الإسلاميّ بحسب ما يرونه وبحسب تكليفهم. لكن كيف يُمكن للأئمّة أن يقوموا بهذا الأمر، مع أنّهم كانوا يعلمون وقد اطّلعوا بواسطة الإلهام الإلهيّ على ذلك؟

 

والجواب عن هذه الفكرة: إنّ معرفة عدم الوصول إلى الهدف لا تمنع من أداء الوظيفة والتكليف. فعلى سبيل المثال نجد في حياة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، أنّه كان يعلم بهزيمة المسلمين في معركة أُحد، وكان يعلم أنّ أولئك الّذين وقفوا على كتف الجبل لن يصمدوا وسوف تُحرّكهم أطماعهم نحو الغنائم. وكذلك عندما ذهب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطّائف من أجل هداية بني ثقيف، ولجأ إليهم من شرّ أهل مكّة، كان يعلم أنّهم سيستقبلونه بالحصى والحجارة، لقد رموه بالحجارة إلى درجة أنّ الدّم سال من ساقيه المباركتين واضطُرّ إلى الرّجوع. والأئمّة عليهم السلام كانوا يعلمون ذلك كلّه.

 

كان أمير المؤمنين عليه السلام يعلم أنّه سوف يستشهد في الواحد والعشرين من شهر رمضان، لكنّه في الوقت نفسه، وقبيل شهر رمضان، أقام معسكرًا كبيرًا خارج الكوفة من أجل أن يُكمل حربه على معاوية. لو كانت معرفة أمير المؤمنين عليه السلام موجبة لأن لا يعمل طبق المسار العاديّ، فلماذا نصب ذاك المخيّم؟! ولماذا جيّش الجيوش فأخرج النّاس إلى خارج الكوفة وجعلهم ينتظرون؟! لماذا؟! ما هي الفائدة؟! إنّ معرفة الأئمّة عليهم السلام بأنّهم لن يصلوا إلى الحكومة لا ينبغي أن تؤدّي إلى إيقاف مساعيهم. بل يجب السّعي والجهاد والقيام بكلّ ما ينبغي كشخصٍ لا يعلم ما ينتظره.

(21/04/1985)
 


المصدر: كتاب إنسان بعمر 250 سنة، للامام الخامنئي، الفصل الثاني: الإمامة

2025-04-21 | 5 قراءة