
رُوي عن الني الاعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، في حديث مشهور ومتواتر، أنّه قال: "إنّما بُعثت لأتمّم مكارم الأخلاق" ، فإنّ البعثة قد وُجدت في هذا العالَم لأجل هذا الهدف، من أجل تعميم المكارم الأخلاقيّة، والفضائل الروحيّة وتكميلها عند النّاس.
وطالما أنّ المرء لم يتحلَّ بأفضل المكارم الأخلاقيّة، فإنّ الله تعالى لن يوكل إليه هذا المهمّة العظيمة والخطيرة، ولهذا فإنّ الله سبحانه يُخاطب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في أوائل البعثة قائلاً: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ ، أي أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان على درجة من الاستعداد تجعله قادرًا على تلقّي الوحي الإلهيّ، وهذا الأمر يعود إلى ما قبل البعثة. ولهذا فقد ورد أنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كان يشتغل بالتجارة في شبابه، وقد كسب من ذلك أرباحًا طائلة، ما لبث أن أنفقها جميعًا على المساكين قربةً إلى الله تعالى.
وفي هذه المرحلة الّتي كانت نهاية تكامل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وقبل نزول الوحي ـ ولم يكن قد نُبّئ بعد ـ كان النبيّ يعتزل في غار حراء ويجول بفكره في الآيات الإلهية من سماءٍ ونجومٍ وأرض، ويتأمّل في هذه الخلائق والموجودات الّتي تعيش على وجه البسيطة بما لها من مشاعر مختلفة وطبائع شتّى. لقد كان يشاهد كافّة هذه الآيات الإلهية فيزداد خضوعه يومًا بعد آخر أمام عظمة الحقّ ويتضاعف خشوع قلبه أمام الأمر والنّهي الإلهيّين والإرادة الرّبانية وتتفتّح في وجدانه، مع مرور الأيّام، براعم الأخلاق النبيلة. ولهذا فقد ورد أنّه صلى الله عليه وآله وسلم: "كان أعقل النّاس وأكرمهم" ، حيث كان يزداد تكاملًا قبل البعثة بمشاهدة الآيات الإلهيّة حتّى بلغ الأربعين، "فلمّا استكمل أربعين سنة ونظر الله عزّ وجل إلى قلبه فوجده أفضل القلوب وأجلّها وأطوعها وأخشعها وأخضعها أذن لأبواب السماء ففُتحت، ومحمّد ينظر إليها، وأذن للملائكة فنزلوا ومحمّد ينظر إليهم" ، حتّى نزل عليه جبرائيل الأمين وقال: ﴿اقْرَأْ﴾ فكانت بداية البعثة.
إنّ هذا المخلوق الإلهيّ الّذي لا نظير له، وهذا الإنسان الكامل الّذي كان قد بلغ تلك الدرجة من الكمال في هذه المرحلة قبل نزول الوحي، قد شرع منذ اللحظة الأولى من البعثة في دخول مرحلة من الجهاد الشامل والبالغ المشقّة والمكابدة، استغرقت ثلاثًا وعشرين سنة، وكل هذا كان نموذجًا للكفاح والمجاهدة والعمل الدؤوب. لقد كان جهاده صلى الله عليه وآله وسلم جهادًا مع نفسه، ومع أُناس لا يُدركون من الحقيقة شيئًا، ومع ذلك المحيط الّذي كان يعمّه ظلامٌ حالك ومطبق. ويقول أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة في وصف ذلك: "في فِتَنٍ دَاسَتْهُمْ بِأَخْفَافِهَا، وَوَطِئَتْهُمْ بأَظْلاَفِهَا، وَقَامَتْ عَلَى سَنَابِكِهَا" .
لقد كانت الفتن تُهاجم النّاس من كلّ جانب: حبّ الدنيا واتّباع الشهوات والظلم والجور والرذائل الأخلاقيّة، الّتي تقبع في عمق وجود البشريّة، وأيادي الطغاة الجائرة، الّتي كانت تمتدّ على الضعفاء بلا أدنى مانعٍ أو رادع. ولم يكن هذا التعسّف مقتصرًا على مكّة أو الجزيرة العربية، بل كان يسود أعظم الحضارات في العالم آنذاك، أي الإمبراطورية الرومانية العظيمة والإمبراطورية الشاهنشاهية في إيران. فإذا ما تأمّلتم في التاريخ، لوجدتّم صفحة تاريخية مظلمة كانت تضرب بأطنابها كافّة نواحي الحياة الإنسانيّة.
لقد بدأ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم جهاده منذ اللحظة الأولى للبعثة متسلّحًا بقوّة خارقة وسعيٍ متواصل يستعصي على التصوّر. لقد تحمّل الوحي، ذلك الوحي الإلهيّ الّذي كان ينزل على قلب الرسول صلى الله عليه وآله وسلمكما ينزل الغيث العذب ويهطل على الأرض الخصبة فيمنحه الطاقة ويمدّه بالقوّة، وانبرى موظّفًا كلّ طاقته ليأخذ بِيَد العالَم إلى زمنٍ من التحّول العظيم، ولقد حالفه التوفيق.
إنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بنى الخلايا الأولى لجسد الأمّة الإسلاميّة بِيَده المقتدرة، في تلك الأيّام العصيبة من تاريخ مكّة. لقد بنى قواعد الأمّة الإسلاميّة ورفع عمادها، فكان المؤمنون الأوائل وأوّل من اعتنق الإسلام وأوّل من كانت لديهم تلك المعرفة والشجاعة والنورانية الّتي مكنتهم من الوقوف على حقيقة الرسالة النبويّة والإيمان بها، ﴿فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ﴾ .
لقد كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو الّذي لامس بأنامله الرقيقة شعاع تلك القلوب الوالهة، وفتح بيده القويّة أبواب الأفئدة على عالَمٍ رحبٍ من المعارف والأحكام الإلهيّة، فتفتّحت الأذهان والقرائح وازدادت الإرادات صلابةً ودخلت تلك الثلةّ المؤمنة - الّتي كان يزداد عددها يومًا بعد يوم - في صراعٍ مريرٍ لا يُمكن تصوّره بالنسبة لنا في المرحلة المكّية. لقد تفتّحت هذه البراعم في بيئة لم تكن تعرف سوى القيم الجاهليّة، فكان يسودها العصبية الخاطئة، ويعمّها الحقد العميق، وتتصارع بين جنباتها قوى القسوة والشرّ والظلم والشهوة الّتي تضغط بشدّة على حياة البشر وتحيط بها من كلّ جانب، فنبتت تلك الغرسات وأينعت من بين كلّ هذه الأحجار والأشواك الجامدة والملتفّة، وهذا هو معنى قول أمير المؤمنين عليه السلام: "وَإِنَّ الشَّجَرَةَ الْبَرِّيَّةَ أصلبُ عوداً، (والرواتع الخضرة أرقّ جلوداً، والنباتات العذية) أَقْوَى وَقُوداً" .
ولذلك فإنّ كافّة العواصف والأنواء لم تستطع النيل من هذه النباتات والبراعم والأشجار الّتي نمت وترعرعت وانبثقت أعوادها من بين الصخور الصمّاء، وانقضى ثلاثة عشر عامًا، ثمّ ما لبث صرح المجتمع الإسلاميّ ــ المجتمع المدنيّ والنبويّ ــ أن قام على أساس هذه القواعد القويّة.
المصدر: كتاب إنسان بعمر 250 سنة، للامام الخامنئي، الفصل الأول: النبيّ الأعظم (ص)