إنسان بعمر 250 سنة | حماية النّظام الإسلاميّ 06

بغية إنجاز مهمّة "حماية النّظام الإسلاميّ" كان هناك ثلاث مراحل هي:

 

  • المرحلة الأولى: إرساء قواعد النّظام من خلال إنجاز هذه الأعمال.

 

  • المرحلة الثّانية: صيانة هذا النّظام، فمن الطبيعيّ أن يكون هناك من يُعادي هذا الكيان المتنامي والمتعاظم الّذي لو أحسَّ به أصحاب السّلطة لشعروا بالخطر إزاءه. وإذا لم يتمكّن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلممن حفظ هذا الوليد الطّبيعيّ الميمون بحنكة في مقابل الأعداء، فسيزول هذا النّظام وتذهب جهوده سدًى، فلا بدّ له من صونه.

 

  • المرحلة الثالثة: إكمال البناء وإعماره، إذ لا تكفي عمليّة الإرساء وإنّما هي الخطوة الأولى.

 

وهذه المراحل الثلاث تسير إلى جانب بعضها بعضًا عرضيًّا. إنّ عمليّة إرساء القواعد تأتي بالدّرجة الأولى، بيد أنّه يتعيّن الحذر من العدوّ أثناءها، وهكذا تأتي مرحلة الصيانة، حيث يتمّ خلالها الاهتمام ببناء الأشخاص والكيانات الاجتماعيّة ومن ثمّ تتواصل في المراحل اللاحقة.
 
أعداء النّظام الإسلامي
 

كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يرى خمسة أصناف من الأعداء يتربّصون بهذا المجتمع الفتيّ:


العدوّ الأول: وهو عدوٌّ ضئيل الأهميّة ومحدود، ولكن ينبغي عدم التّغافل عنه في الوقت نفسه، فلربّما يتسبّب في بروز خطرٍ داهم. فمن هو هذا العدوّ؟ إنّه القبائل شبه الهمجيّة التي تُحيط بالمدينة، فعلى بُعد عشرة أو خمسة عشر أو عشرين فرسخًا من المدينة تعيش قبائل شبه بدائيّة، جلّ حياتها عبارة عن الاقتتال وإراقة الدماء والإغارة والنّهب والسّلب.

 

وإذا كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يصبو إلى إقامة مجتمعٍ سليمٍ آمنٍ ووادعٍ في المدينة، فما عليه إلا أن يحسب لهؤلاء حسابهم، وهكذا فعل صلى الله عليه وآله وسلم، حيث تعاهد مع مَنْ تتوفّر فيه أمارات الصّلاح والهداية، ولم يُبادرهم بالدّعوة للإسلام بادئ الرأي، بل عاهدهم مع بقائهم على كفرهم وشركهم بغية تجنّب انتهاكاتهم. لقد كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ملتزمًا أشدّ الالتزام بتعهّداته ومواثيقه، وهذا ما سأتطرّق إليه أيضًا، لكنّه لاحَقَ الأشرار ومَن لا عهد لهم وعالج مشكلتهم. وما يُذكر من بَعْثِ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم للسّرايا، حيث كان يرسل الخمسين أو العشرين من المسلمين في سرايا، لملاحقة هؤلاء الّذين تأبى طبيعتهم الوئام والهداية والصّلاح ولا يستقرّ لهم حال إلا بإراقة الدّماء والتوسّل بالقوّة، فكان أن لاحقهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وقمعهم وأخمد نارهم.

 

العدوّ الثاني: هو مكّة الّتي كان لها مركزيّة (بعض زعامات مكة). وبالرغم من عدم وجود حكومة فيها بالمعنى المتعارف عليه، بيد أنّه كان هناك مجموعة من الأشراف المتكبّرين العتاة أصحاب النّفوذ يحكمون مكّة، وهم على اختلافهم، كانوا متّحدين بوجه هذا المولود اليافع الجديد. وكان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على علمٍ بأنّ الخطر الجسيم إنّما ينطلق منهم، وهذا ما حدث عمليًّا.

 

معركة بدر

أحسّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه لو قعد حتى يأتوا بحثًا عنه فإنّهم يقينًا لن يتوانوا عن ذلك وسوف يقتنصون الفرصة، لذلك ذهب في أثرهم، لكنّه لم يقصد مكّة. كان طريق قافلتهم يمرّ بقرب المدينة، فبادرهم الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم بالهجوم، وكانت معركة بدر أهمّ هذه الهجمات وفي طليعة الأعمال. لقد بادرهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالهجوم، وهم أيضًا جاؤوا لمحاربة حضرته بدافع العصبيّة والغلظة والعناد.

(18/05/2001)

بحسب الوعد الإلهيّ، أُخبر المسلمون أنّهم سينتصرون على جماعة من الكافرين. وقد كان ذلك في السنة الثانية للهجرة. كانت القافلة، المحمّلة بأمتعة وبضائع قريش، قادمة من الشام إلى المدينة، لتعبر أطراف المدينة نحو مكّة. وبمجرّد أن اتّضح لكفّار قريش تهديد أبطال ومجاهدي العرب والمسلمين، حتّى أرسلت قوّات مسلّحة إلى المدينة للدّفاع عن متاعها وبضائعها. كان المسلمون يميلون أكثر لإيقاف القافلة المحمّلة بالثّروة والمتاع، والّتي لم يكن لديها أيّ دفاعٍ يُذكر. أمّا حكم الله فقد قضى بأن يذهبوا لمواجهة القوّات المسلّحة لكفّار قريش، ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ﴾ .

 

كان المسلمون يعلمون أنّهم سينتصرون في هذه المواجهة ولكنّهم لم يكونوا يعلمون بأنّ ذلك سيكون على قوّات قريش المسلّحة، بل كانوا يظنّون أنّ انتصارهم سيكون على هذه القافلة التجارية العائدة من الشام. ولكنّ النبيّ بدّل طريقهم وأخذهم نحو المواجهة العسكريّة، فعبرت القافلة، لكنّ المسلمين التقوا بالكفّار في محلّةٍ تُدعى بدرًا.

 

فماذا كانت العلّة من تبديل الله تعالى طريق المسلمين من مواجهة مع القافلة إلى مواجهة مع القوّات المسلحّة؟ السبب هو أنّ المسلمين كانوا يرون ما هو قريب وكانت إرادة الله ومشيئته تريد هدفًا بعيدًا، ﴿وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ﴾ . فإنّ الله تعالى أراد أن يعمّ الحقّ هذا العالم ﴿لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾  وأراد أن يزهق الباطل، الّذي هو بطبيعته زاهق. ألم يكن من المقرّر أن يقوم الإسلام بالقضاء على جميع القوى والسلطنات الشيطانية والطاغوتية؟ ألم يكن من المقرّر أن تصبح الأمّة الإسلاميّة ﴿لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ﴾ ؟ ألم يكن من المقرّر أن ترتفع راية الإسلام خفّاقةً على قمم الإنسانيّة والبشريّة؟ فمتى يكون ذلك؟ وكيف؟ وعن أيّ طريقٍ؟

 

لقد كان المسلمون في ذلك الوقت يُفكّرون في أنفسهم أنّهم لو صادروا هذه القافلة الثرية، وحصلوا على بعض المال فإنّ الإسلام الفتيّ سوف يقوى. كانوا يُفكّرون بشكلٍ صحيح، لكن كان الفكر الأرقى والأكثر قيمةً في محلٍّ آخر. الفكر الأرقى هو أنّنا نحن المسلمون الّذين نحيط بالنبيّ اليوم، قد وصلنا إلى حدّ يُمكننا أن نُرسّخ فكرنا وطريقنا في المجتمعات المستضعفة المحرومة وفي وسط عوالم الظلام والظلمانية، ففي هذا الحوض من المياه ما يمكّنه من التدفّق لإرواء كلّ هذه الغرسات والأشجار والأراضي الميّتة واليابسة. هذه هي الفكرة الأرقى.

 

فإذا كان من المقرّر أن يصل الإسلام إلى النصر الواقعيّ، وإذا كان من المقرّر أن تتحرّك هذه النواة الجليلة للإسلام نحو المناطق المستضعفة، وإذا كان من المقرّر أن تتساقط قصور الظلم والجور واحدًا بعد الآخر، فينبغي أن يبدأ ذلك من مكانٍ ما. لم يكن المسلم المخلص المحبّ في صدر الإسلام يعلم من أين يبدأ، فعلّمه الله تعالى ذلك وهيّأ له، أخرجه الله تعالى من أجل مصادرة بضائع قريش ليجرّه إلى معركةٍ لم يردها، فيتحقّق بذلك، مع قلةّ العتاد ولكن مع الإيمان الراسخ، تراجع العدوّ القهقريّ وفتح الطريق أمام سيلان وجريان وتقدّم ونفوذ قوّة الحقّ وثبات طريقه، فلكي يفهم العدوّ أنّ الإسلام موجودٌ يجب أن يأخذه على محمل الجدّ. ﴿لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ﴾ ، لقد جعلناكم أيّها المسلمون في مواجهة الجيش الجرّار للعدوّ من دون أن تريدوا ذلك، وذلك من أجل أن توجّهوا قبضتكم نحوه، فتظهر قدرة الله أمام ناظريه.

(03/10/1980)

معركة أُحد

بعد أن كان النّصر الإلهيّ في معركة بدر، بفضل الله ورحمته وبهمّة المسلمين، من نصيب مجاهدي الإسلام، فإنّه لم يكن متوقّعاً من العدوّ أن يُقلع عن عداوته بهذه السرعة، ولذلك بدأ بالتخطيط لمعركة أُحد. 
 
وفي معركة أُحد كان الأمر في البداية لصالح المسلمين بسبب اتّحادهم وتوافقهم، واستطاعوا في البداية أن يهزموا المشركين، ولكن بعد أن حصلوا على النصر بسرعة، فإنّ أولئك الـ 50 رجلًا الذين أُمروا بحفظ منفذ الجبل من أيدي العدوّ، ومن أجل أن لا يتخلّفوا عن جمع الغنائم، تركوا مهمّتهم ولحقوا بالمسلمين الّذين كانوا بدورهم مشغولين بجمع الغنائم. بقي عشرة أشخاص فقط من المسلمين عند ذلك الجبل وأدّوا ما عليهم، لكنّ العدوّ اغتنم هذه الفرصة والتفّ عليهم من خلف الجبل، وهجم على المسلمين من الشقّ والمنفذ الذي لم يكن عليه ما يكفي من الحرس. وقد دفع المسلمون ثمنًا باهظًا بسبب هذا الهجوم،

 

لم يُهزم الإسلام، ولكنّ انتصاره تأخّر بالإضافة إلى خسارة أبطالٍ جشعان وأعزّاء في هذا الطريق، كحمزة سيّد الشهداء. والله تعالى يدعو المسلمين إلى الاعتبار والتأمّل فيقول لهم إنّنا صدقنا وعدنا وقلنا إنّكم ستنتصرون على العدوّ وقد انتصرتم، ولكن بعد أن ظهرت فيكم تلك الحالات وتلك الخصال الثّلاث، تلقّيتم الضربة، وتلك الخصال الثلاث هي عبارة عن:

أوّلًا: ﴿فَشِلْتُمْ﴾، أي ضعفتم وفقدتم حماسكم وجهوزيّتكم وثباتكم وإقدامكم.

ثانيًا: ﴿وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ﴾، فشققتم وحدة الكلمة والصفّ.

ثالثًا: ﴿وَعَصَيْتُم﴾ ، فتخلّفتم عن أوامر الرسول والقائد وأولئك الّذين كانوا مسؤولين عن إدارة أموركم.
 

فهذه الصفات الثلاث الّتي ظهرت فيكم أعطت العدّو الفرصة ليلتفّ عليكم ويوجّه لكم ضربة وليسقط أعزّ أبناء الإسلام مضرّجين بدمائهم، بالغين بذلك مقام الشهادة والمفاخر، وليخسر العالم الإسلاميّ بسبب هذا الأمر أمثال هذه الشّخصيّة.

(09/05/1980)

عركة الخندق

كانت معركة الخندق آخر المعارك الّتي شُنّت ضدّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ــ وهي واحدة من أهمّها ــ حيث استجمع كفّار مكّة كلّ قواهم واستعانوا بالآخرين أيضًا وقالوا فلنذهب ونقتل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وبضع مئات من أنصاره المقرّبين وننهب المدينة ونرجع مطمئنّين، ولن يبقى بعدها عينٌ ولا أثر للنبيّ ومن معه. وقبل أن يصلوا إلى المدينة كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد علم بالأمر فبادر إلى حفر خندق عرضه أربعون مترًا تقريبًا من الجّهة الّتي يسهل اختراقها. كان ذلك في شهر رمضان والمناخ قارس البرودة، كما تنقل الروايات، ولم يهطل المطر ذاك العام، من هنا فقد عمّ الجدب وعانى النّاس من المصاعب.

 

كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أكثر النّاس عملًا في حفر الخندق، فحيثما وقعت عيناه على من أعياه العمل وأصابه الإرهاق ولم يعد قادرًا على مواصلة العمل، كان صلى الله عليه وآله وسلم يتناول معوله ويمارس العمل المقرّر إنجازه عنه. فلم يسجّل حضوره بإصدار الإيعازات فقط، بل كان يحضر بشخصه وسط جموع النّاس. جاء الكفّار مقابل الخندق، ولمّا أدركوا عجزهم أصيبوا بالإحباط والهزيمة وافتُضح أمرهم فأُجبروا على التّراجع. عندها نادى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بأنّ الأمر قد انتهى، وهذه كانت آخر المعارك الّتي شنّها كفّار مكّة ضدّ المسلمين، وقد جاء دور المسلمين للتوجّه نحو مكّة وملاحقة الكفّار.

 

 صلح الحديبية

بعد عام من تلك الواقعة أراد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم التوجّه إلى مكّة لأداء العمرة - وأثناء ذلك وقع صلح الحديبية الغنيّ بالمعاني والأهداف - وكان مسير النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكّة في شهر محرّم الحرام - حيث كانوا يُحرّمون فيه القتال - فأصبحوا في حيرة من أمرهم ما عساهم صانعين، أيسمحون له بالتقدّم في مسيره؟ وماذا سيفعلون إزاء نجاحه هذا؟ وكيف يواجهونه؟ أيقاتلونه وهم في شهر محرّم؟ وكيف يقاتلونه؟ وأخيرًا قرّروا عدم السّماح له بالمجيء إلى مكّة، وإبادته هو وأصحابه إن وجدوا لذلك مبرّرًا.

 

تميّز تصرّف النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بأسمى درجات التدبير، حيث قام بما دفعهم لأن يُبرِموا معه صلحًا يقضي بأن يعود إلى المدينة على أن يأتي في العام القادم لأداء العمرة. وتوفّرت الظّروف جميعها أمام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من أجل التّبليغ في كلّ أرجاء المنطقة وفُتحت أمامه الأبواب. كــان ذلك صلحًا، بيد أنّ الباري تعالــى يُصرّح فــي كتابه بالقول: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا﴾ . ومن يُراجع مصادر التاريخ الصحيحة والموثّقة يُدهشه كثيرًا ما جرى في واقعة صلح الحديبية.

 

فتح مكّة

وفي العام التالي توجّه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لأداء العمرة ورغم أنوفهم أخذت شوكته تزداد قوّة يومًا بعد يوم. ولمّا نقض الكفّار العهد في العام اللاحق ــ أي العام الثامن للهجرة ــ تقدّم نحوهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وفتح مكّة، فكان فتحًا عظيمًا يُنبئ عن اقتدار النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وتمكّنه. وتأسيسًا على ذلك فقد اتّسم تعامل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مع هذا العدوّ بالتدبير والاقتدار والتأنّي والصبر بعيدًا عن الارتباك، ولم يتراجع أمامه ولو خطوة واحدة، بل كان يتقدّم نحوه يومًا بعد يوم وآنًا بعد آن.

 

العدوّ الثالث: كانوا اليهود، أي الدّخلاء الّذين لا يوثق بهم والّذين أسرعوا بالتّعبير عن استعدادهم لمعايشة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة، لكنّهم لم يُقلعوا عن أعمال الإيذاء والتخريب والخيانة. بالتدقيق جيّدًا، نجد أنّ قسمًا مهمًّا في سورة البقرة وبعض السور الأخرى من القرآن الكريم، ترتبط بطريقة تعامل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وصراعه الثقافيّ مع اليهود الذين كانوا على قدرٍ من العلم والوعي والثقافة، وكانوا يؤثّرون على أفكار ضعاف الإيمان من النّاس، ويحوكون الدّسائس ويزرعون اليأس في قلوبهم ويثيرون الفتن بينهم، فكانوا يُمثّلون عدوًّا منظّمًا.

 

وكان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يسلك معهم سبيل المداراة ما أمكنه، لكنّه لمّا لمس منهم عدم استجابتهم لهذه المداراة بادر إلى معاقبتهم. ولم تأتِ مباغتة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لهم من دون سبب أو مقدّمات، بل إنّ كلاًّ من هذه القبائل الثلاث ارتكبت أفعالًا فعاقبهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بما يوازي فعلتهم.

 

الأولى - "قبيلة بنو قينقاع": الذين خانوا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فتوجّه نحوهم وأمرهم بالجلاء وأخرجهم من ديارهم تاركين ثرواتهم للمسلمين.

 

الثانية - "بنو النضير": الّذين خانوا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أيضًا - وقصّة خيانتهم مهمّة - فأمرهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بحمل بعض أمتعتهم والرحيل، فاضطرّوا لذلك وارتحلوا.

 

الثالثة - "بنو قريظة": الذين منحهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الأمان وسمح لهم بالبقاء في المدينة ولم يُخرجهم منها، وأبرم معهم عقدًا على ألّا يسمحوا للعدوّ بالتسلّل من أحيائهم في معركة الخندق، لكنّهم غدروا وتعاقدوا مع العدوّ على الوقوف إلى جانبه لمقاتلة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، أي إنّهم لم يكتفوا بتنصّلهم من عهدهم مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، بل في الوقت الّذي بادر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى حفر الخندق في الجهة الّتي يسهل اختراقها وسلّمهم الجّهة، الّتي تقع عليها أحياؤهم، ليمنعوا العدوّ من التسلّل عبرها، ذهبوا للتفاوض والتباحث مع العدوّ ليدخلوا معًا من تلك الجهة ويطعنوا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من الخلف.

 

وفي تلك الأثناء علم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بهذه المؤامرة، وكان قد مضى ما يُقارب الشّهر على حصار المدينة، وقد وقعت خيانة هؤلاء في منتصف هذا الشهر، فلجأ صلى الله عليه وآله وسلم إلى عملٍ في غاية الذكاء، حيث أوقع الفتنة بينهم وبين قريش، فقضى على الثّقة الّتي تربطهم بقريش، وقد تجلّت بذلك واحدة من الخطط السّياسيّة العسكريّة الرائعة للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، أي أنّه صلى الله عليه وآله وسلم باغتهم حتى لا يتمكّنوا من توجيه أيّ ضربة للمسلمين.

 

وبعد أن انهزمت فيه قريش وحلفاؤها وابتعدوا عن الخندق وعادوا إلى مكّة، رجع النبيّ إلى المدينة. وفي اليوم عينه الذي رجع فيه، صلّى صلى الله عليه وآله وسلم الظهر، ثمّ دعا إلى صلاة العصر قبالة قلاع بني قريظة، فتوجّه نحوهم، أي أنّه لم يُمهلهم ولو لليلةٍ واحدة، فحاصرهم لمدّة خمسة وعشرين يومًا تواصلت خلالها المناوشات بين الطّرفين. ثمّ إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قتل مقاتليهم لفداحة خيانتهم وعدم إمكانيّة إصلاحهم.

 

هكذا تميّز تعامل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مع هؤلاء، أي إنّه أزال عداوة اليهود من على طريق المسلمين - بشكل أساس في قضية بني قريظة، وقبلها مع بني النضير، وبعدها مع يهود خيبر ـ بكلّ تدبير وقوّة وإصرار مقترن بالأخلاق الإنسانيّة العالية. وفي كلّ هذه المواطن لم ينقض النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عهدًا أبدًا، وهذا ما يُذعن له حتّى أعداء الإسلام، بل أولئك هم الّذين نقضوا العهود.

 

العدوّ الرابع: كانوا المنافقون. كان المنافقون يعيشون بين النّاس. وكانوا من الّذين آمنوا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم. كانوا أشخاصًا منحطّين ومعاندين وضيّقي الأفق ومستعدّين للتعاون مع العدوّ، لكنّهم كانوا يفتقدون للتنظيم، وهذا ما كان يُميّزهم عن اليهود. لقد كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يتعامل مع العدوّ المنظّم المتوثّب لمهاجمة المسلمين كتعامله مع اليهود ولم يُعطهم الأمان أبدًا، لكنّه كان يتحمّل العدوّ غير المنظّم، ممّن تلوّث أفراده بالعناد والعداوات والخبائث الفردية وعدم الإيمان، فلقد كان عبد الله بن أُبيّ من ألدّ أعداء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وقد عاصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حتّى آخر سنة من عمره تقريبًا، إلّا أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يتعامل معه تعاملًا سيّئًا، مع علم الجميع بنفاقه، فقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يُداريه ويُعامله كباقي المسلمين من حيث عطاؤه من بيت المال وصيانة أمنه وحرمته. كان ذلك منه صلى الله عليه وآله وسلم بالرغم من خبث هذه الفئة وإساءتها، وفي سورة البقرة آيات تختصّ بهؤلاء المنافقين.

 

ولمّا اتّخذ تجمّع بعض المنافقين طابع التنظيم قام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بملاحقتهم. ففي قضيّة مسجد ضرار، حيث اتّخذوا منه مركزًا، كما أقاموا اتّصالات مع عناصر من خارج النّظام الإسلاميّ، من قبيل الرّاهب أبي عامر من بلاد الروم، وأعدّوا مقدّمات تحشيد الجيوش لمحاربة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حتى يستعينوا بجيش الرّوم ضدّ النبيّ.

 

من هنا بادر إليهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وهدم المسجد الّذي بنوه وأحرقه، معلنًا أنّه ليس بمسجد بل هو بؤرة للتآمر على المسجد وعلى اسم الله وعلى النّاس. أو تلك الحفنة من المنافقين الّذين أعلنوا كفرهم وخرجوا من المدينة وحشدوا قواهم فقاتلهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وقال: لئن دنَوا من المدينة لأخرجنّ لقتالهم. رغم أنّه كان يوجد منافقون داخل المدينة، لكنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يتعرّض لهم أبدًا. وهكذا فقد واجه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الفئة الثالثة مواجهة منظّمة صارمة، لكنّه سلك طريق المداراة مع الفئة الرابعة لافتقادهم للتنظيم، ولأنّ الخطر الصادر عنهم يُمثّل خطرًا فرديًّا. كما أنّه صلى الله عليه وآله وسلم كان غالبًا ما يُخجلهم بسلوكه.

 

أمّا العدوّ الخامس: فكان عبارة عن العدوّ الكامن في باطن كلّ مسلم ومؤمن وهو الأخطر من بين جميع الأعداء. وهذا العدوّ معشش فينا أيضًا، إنّه الأهواء النفسية والأنانيّة والجنوح نحو الانحراف والضّلال والانزلاق الّذي يُهيّئ الإنسان بنفسه أرضيّته. وقد خاض النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مع هذا العدوّ صراعًا مريرًا. غاية الأمر أنّ آلة الصراع مع هذا العدوّ لا تتمثّل بالسّيف، بل بالتّربية والتّزكية والتّعليم والتّحذير. لهذا، عندما عاد المسلمون من الحرب مع كلّ ذلك التّعب، قال لهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم : "مرحبًا بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي الجهاد الأكبر". فتعجّب المسلمون من قوله وسألوه: ما الجهاد الأكبر يا رسول الله؟! لقد خضنا غمار هذا الجهاد المرير، فهل من جهاد أكبر منه؟! قال: "جهاد النفس" .

 

فإذا ما صرّح القرآن الكريم: ﴿الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾  فذلك لا يعني أنّهم منافقون، بل بعض المنافقين في عداد الّذين في قلوبهم مرض. ولكن ليس كلّ "الّذين في قلوبهم مرض" هم من المنافقين، فربّما يكون المرء مؤمنًا لكن في قلبه مرض. فماذا يعني هذا المرض؟ إنّه يعني ضعف الأخلاق والشّخصيّة والشهوانيّة والجنوح نحو مختلف الأهواء الّتي إن لم يُبادر المرء للحدّ منها ومقارعتها فإنّها ستسلب منه الإيمان ويقسو باطنه. وإذا ما سُلب الإيمان من المرء، وأصبح قلبه بلا إيمان وظاهره مؤمنًا، عندئذٍ يُسمّى منافقًا.

 

فلو خلت قلوبنا، لا سمح الله، من الإيمان وبقي ظاهرنا متلبّسًا بالإيمان، وقطعنا أواصر الإيمان وعلائقه، بيد أنّ ألسنتنا ظلّت تلهج بالتعابير الإيمانية، فهذا هــو النّفاق وهــو من الخطورة بمكان. والقرآن الكريم يُصرّح: ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون﴾ ، وذاك هو السّوء المبين، ألا وهو التّكذيب بآيات الله. ويقول في موضعٍ آخر: ﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ﴾ .

 

وهذا هو الخطر الكبير الّذي يتهدّد المجتمع الإسلاميّ، وحيثما شاهدتم في التّاريخ انحرافًا في المجتمع الإسلاميّ فمن هنا كانت بدايته. ربّما يشنّ العدوّ الخارجيّ هجومه ويدمّر ويخرّب لكنّه لا قدرة له على الإفناء. ففي النّهاية سيبقى الإيمان، وينبعث في مكانٍ ما ويؤتي أكله. غير أنّ جيوش العدوّ الداخليّ إن هجمت على الإنسان وأفرغت باطنه إذ ذاك سيطال الانحراف سبيله، وأينما وُجد الانحراف فإنّ منشأه يكون هو ذاك. ولقد تصدّى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لهذا العدوّ أيضًا.


 
امتاز سلوك النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالتدبير والسّرعة في العمل فلم يدعْ الفرصة تفوته في أيّ قضيّة. كان صلى الله عليه وآله وسلم طاهرًا قانعًا لا وجود لأيّ نقطة ضعف في وجوده المبارك. كان معصومًا نقيًّا، وهذا بحدّ ذاته يُمثّل أهمّ عوامل التّأثير. إنّ التّأثير بالعمل هو أوسع وأعمق بدرجات من التّأثير باللسان. لقد كان قاطعًا وصريحًا. ولم يتحدّث النبيّ يومًا بلسانين. بالطّبع، عندما كان يواجه العدوّ كان يستخدم معه أسلوبًا سياسيًّا يوقعه في الخطأ، فلقد كان يُباغت العدوّ في الكثير من الحالات، سواء في المواقف العسكريّة أم السّياسيّة، لكنّه كان صريحًا وشفّافًا مع المؤمنين ومع قومه على الدّوام، نقيًّا واضحًا في كلامه بعيدًا عن الألاعيب السّياسيّة، يُبدي المرونة في المواطن الضّروريّة - كما في قضيّة عبد الله بن أُبيّ - ذات الأحداث المفصّلة، ولم ينكث عهدًا مع قومه أو مع الفئات الّتي عاهدها وإن كانوا أعداءً له، وخاصّةً مع كفّار مكّة، الّذين نقضوا عهودهم فردّ عليهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ردًّا قاطعًا، ولم ينقضِ صلى الله عليه وآله وسلم موثقًا أبرمه مع أحد قطّ، لذلك كان الجميع على ثقةٍ بالعهد الّذي يُبرمه معهم.

 

ومن ناحيةٍ أخرى، لم يفقد النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم تضرّعه إلى الله سبحانه، وكان مواظبًا على توطيد أواصر علاقته بالباري جلّ وعلا يومًا بعد يوم. فلقد كان يرفع يد الضراعة إلى بارئه في تلك الأثناء الّتي ينظّم عساكره ويحثّهم ويحضّهم على القتال، وفي ساحة الوغى، عندما كان يُمسك بسيفه ويقود جيشه بحزم أو يُعلّمهم ما يصنعون، كان يجثو على ركبتيه رافعًا يديه باكيًا مناجيًا ربّه سائلًا إيّاه العون والإسناد ودفع الأعداء. لم يؤدِّ به الدّعاء إلى تعطيل قواه، ولا أنّ استثماره لقواه أغفله عن التوسّل والتضرّع والارتباط بالله سبحانه، بل كان حريصًا على كلي الجانبين، لم يعتوره التردّد أو الخوف وهو يواجه عدوًّا عنيدًا، ولقد قال أمير المؤمنين عليه السلام - وهو مظهر الشّجاعة - "كنّا كلّما اشتد الوطيس لذنا برسول الله" ، وكان يلوذ به كلّ من شعر بالضعف. استمرّ حكمه عشر سنوات، لكن لو أردنا إيكال العمل، الّذي قد أنجزه خلال العشر سنوات هذه، إلى مجموعة مليئة بالنشاط لتقوم بإنجازه، فإنّها لن تستطيع إنجاز كلّ تلك الأعمال والخدمات والمساعي ولو على مدى مئة عام. فلو قارنّا أعمالنا بما قام به النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، عندها سنُدرك ما الذي قام به. فإدارة الحكم وبناء ذلك المجتمع وصياغة ذلك الأنموذج بحدّ ذاته هي أحد معاجز الرسول.

 

فعلى مدى عشر سنوات، عاشره النّاس ليلًا ونهارًا، وتردّدوا إلى داره وتردّد هو إلى دورهم، وكانوا معه في المسجد وفي الطّرقات وفي حلّه وترحاله، وتحمّلوا الجوع معًا، وتذوّقوا طعم السّرور معًا، فقد كان الوسط الّذي يعيش فيه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مفعمًا بالمسرّة، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يُلاطف الآخرين ويُقيم السّباقات ويشترك فيها. وعلى امتداد تلك السّنوات العشر تعمّقت محبّة أولئك الّذين عاشروه له وازداد إيمانهم به عمقًا ورسوخًا في قلوبهم. وعندما فتح صلى الله عليه وآله وسلم مكّة، جاء أبو سفيان متخفّيًا يلوذ بالعبّاس - عمّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم - إلى معسكر النبيّ يطلب الأمان. ولما حلّ الفجر، رأى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يتوضّأ وقد أحاط به القوم ليحظى كلّ منهم بقطرات الماء الّتي تتناثر من وجهه ويديه، فقال أبو سفيان: لقد رأيت كسرى وقيصر ـ وهما من ملوك الدنيا المعروفين بجبروتهم وسطوتهم ـ لكنّني لم أرَ عليهما مثل هذه العزّة! أجل، فالعزّة المعنويّة هي العزّة الحقيقيّة ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ ، فالعزّة من نصيب المؤمنين أيضًا، إن هم سلكوا ذات الطريق.

(18/05/2001)

 


المصدر: كتاب إنسان بعمر 250 سنة، للامام الخامنئي، الفصل الأول: النبيّ الأعظم (ص)

2025-04-21 | 7 قراءة