إنسان بعمر 250 سنة |  شهادة الإمام الرضا (ع) 03

لقد جعل المأمون الإمام عليّ بن موسى متمتّعًا بالإمكانات والمكانة المرموقة، لكنّ الجميع كانوا يعلمون أنّ هذا الوليّ للعهد، وصاحب المقام الرفيع، لا يتدخّل في أيٍّ من أعمال الحكومة ويمتنع برغبته عن كلّ ما يرتبط بجهاز الحكم، وكانوا يعلمون أيضًا أنّه وليّ العهد بذلك الشّرط أي عدم تدخّله بأيّ عمل من الأعمال. كان المأمون، سواء في رسالة أمر تسليم ولاية العهد أو في كلماته وتصريحاته الأخرى، قد مدح الإمام عليه السلام بالفضل والتّقوى وأشار إلى نسبه الرّفيع ومقامه العلميّ المنيع، وبعد أن كان قسمٌ من النّاس لا يعرف عن الإمام عليه السلام سوى اسمه (حتى أنّ مجموعة من النّاس كانت قد ترعرعت على بغضه)، فقد أصبح في غضون سنة معروفًا عندهم بأنّه شخصيّة تستحقّ التّعظيم والإجلال واللياقة لاستلام الخلافة، فهو أكبر من الخليفة المأمون سنًّا وأغزر علمًا وتقوى وأقرب إلى النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأعظم وأفضل. وبعد مضيّ سنة، ليس أنّ المأمون لم يستطع كسب ودّ ورضا الشّيعة المعارضين بجلب الإمام عليه السلام إلى قربه فحسب، بل إنّ الإمام عليه السلام قام بدورٍ أساس في تقوية إيمان وعزيمة وروحيّة أولئك الشّيعة الثّائرين.

 

وبخلاف ما كان ينتظره المأمون، فإنّ نجم الإمام في المدينة ومكة وفي أهمّ الأقطار الإسلاميّة لم يخبُ، ولم يُقذف بتهمة الحرص على الدنيا وحبّ الجاه والمنصب، بل على العكس من ذلك تمامًا فقد ازداد احترام وتقدير مرتبة الإمام المعنويّة لدرجة فتح الباب أمام المدّاحين والشعراء بعد عشرات السنين ليذكروا فضل ومقام آبائه المعصومين المظلومين. وخلاصة ما نريد قوله إنّ المأمون في هذه المقامرة الكبرى فضلًا عن أنّه لم يحصل على شيء، فإنّه فقد مكاسب كثيرة، وكان على طريق خسارة ما تبقّى له. وبعد مضي سنة على تسلّم الإمام عليه السلام ولاية العهد، وأمام هذا الواقع الّذي أشرنا إليه، شعر المأمون بالهزيمة والخسارة، ولكي يُعوِّض عن هذه الهزيمة ويَجبُر خطأه الفاحش وجد نفسه مضطرًّا - بعد أن أنفق كلّ ما لديه واستنفذ كلّ الوسائل في مواجهة أعداء حكومته الّذين لا يقبلون الصلح، أي أئمّة أهل البيت عليهم السلام - إلى أن يستخدم نفس الأسلوب الّذي لجأ إليه دومًا أسلافه الظّالمون والفجّار، أي القتل.

 

لكن كان من الواضح عند المأمون أنّ قتل الإمام عليه السلام الّذي يتمتّع بهذه الموقعيّة العالية والمرتبة الرّفيعة ليس بالأمر السّهل. والقرائن التاريخيّة تدلّ على أنّ المأمون قام بعدّة إجراءات وأعمال قبل أن يُصمّم على قتل الإمام عليه السلام لعلّه من خلالها يُسهّل أمر قتل الإمام عليه السلام ويحدّ من خطورته وحساسيّته. ولأجل ذلك لجأ إلى نشر الأقوال والأحاديث الكاذبة عن لسان الإمام كواحدة من هذه التحضيرات. وهناك ظنٌّ كبيرٌ بأنّ نشر الشائعة الّتي تقول إنّ عليّاً بن موسى الرضا عليه السلام يعتبر كلّ النّاس عبيدًا له بهذا الشكل المفاجئ في مرْو، لم يكن ممكنًا، لولا قيام عمّال المأمون بنشر هذه الافتراءات.

 

وحينما نقل أبو الصّلت هذا الخبر للإمام، قال الإمام عليه السلام : "اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ شَاهِدٌ بِأَنِّي لَمْ أَقُلْ ذَلِكَ قَطُّ وَلَا سَمِعْتُ أَحَداً مِنْ آبَائِي عليه السلام قَالَهُ قَطُّ وَأَنْتَ الْعَالِمُ بِمَا لَنَا مِنَ الْمَظَالِمِ عِنْدَ هَذِهِ الْأُمَّة وأنَّ هَذِه مِنْهَا..."[عيون أخبار الرضا،ج2، ص 184].

 

إضافة إلى هذا الإجراء، كان تشكيل مجالس المناظرات مع أيّ شخص لديه أدنى أمل في أن يتفوّق على الإمام، واحدة من الإجراءات الّتي مارسها المأمون. ولمّا كان الإمام عليه السلام يتفوّق ويغلب مناظريه من مختلف الأديان والمذاهب في كافّة البحوث كان يذيع صيته بالعلم والحجّة القاطعة في كلّ مكان، وفي مقابل ذلك كان المأمون يأتي بكلّ متكلّم من أهل المجادلة إلى مجلس المناظرة مع الإمام لعلّ أحدًا منهم يستطيع أن يغلب الإمام عليه السلام، وكما تعلمون فإنّه كلّما كانت تكثر المناظرات وتطول كانت القدرة العلميّة للإمام عليه السلام تزداد وضوحًا وجلاءً.

 

وفي النّهاية يئس المأمون من تأثير هذه الوسيلة. وحاول أن يتآمر لقتل الإمام عليه السلام، كما تذكر الروايات، من خلال حاشيته وخدم الخليفة، وفي إحدى المرّات وضع الإمام في سجن سرخس (منطقة شمال شرق إيران) لكن هذا لم يكن نتيجته إلا إيمان الجلاوزة والسجّانين أنفسهم بالمقام المعنويّ للإمام عليه السلام. وهنا لم يجد المأمون العاجز والغاضب أمامه في النّهاية وسيلة إلا أن يُسممّ الإمام بنفسه من دون أن يُكلِّف أيّ أحد بذلك وهذا ما قام به فعلًا. ففي شهر صفر من سنة 203 هـ أي بعد سنتين تقريبًا من خروج الإمام عليه السلام من المدينة إلى خراسان وبعد سنة ونيّف من صدور قرار ولاية العهد قام المأمون بجريمته النكراء الّتي لا تُنسى وهي قتل الإمام عليه السلام.

 


المصدر: كتاب إنسان بعمر 250 سنة، للامام الخامنئي، الفصل الثاني عشر: الإمام الرضا (ع)

2025-04-18 | 16 قراءة