إنسان بعمر 250 سنة | الامام الكاظم.. سعي دون كللٍ واعتماد أسلوب التقيّة 02

كانت حياة موسى بن جعفر عليه السلام، حياةً مدهشة وعجيبة. ففي حياته الخاصّة أوّلًا، كان الأمر واضحًا بالنّسبة للمقرّبين. فلم يكن أيٌّ من هؤلاء المقرّبين والخواص من الأصحاب من لا يعلم بالهدف من وراء جهاده. وكان الإمام موسى بن جعفر عليه السلام نفسه يُصرّح بهذا في كلماته وإشاراته وأعماله الرّمزيّة لغيرهم أيضًا. حتّى في محلّ إقامته، تلك الغرفة الخاصّة الّتي كان يستقرّ فيها، كان الأمر بحيث إنّ الراوي الّذي كان من المقرّبين من الإمام عليه السلام يقول: لقد دخلتُ ورأيتُ في غرفة موسى بن جعفر ثلاثة أشياء، أحدها لباسٌ خشن بعيدٌ كلّ البعد عن الوضع السّائد المرفّه العاديّ. أي بحسب مصطلح اليوم يمكن الفهم ويمكن القول إنّه لباس حربٍ. لقد وضع موسى بن جعفر هذا اللباس لم يلبسه، وضعه بصورة شيءٍ رمزيّ. و"سيفٌ معلّق" أي إمّا أن يكون متدلّيًا من السّقف أو معلّقًا بالجدار، و"المصحف"  أي القرآن. فانظروا أيّ رمزٍ هذا وأيّ إشارةٍ جميلة حيث نُشاهد في غرفته الخاصّة الّتي لا يدخلها سوى أصحابه الخواصّ، علامات ومؤشّرات رجلٍ يملكُ عقيدة جهاديّة واضحة. والسّيف الموجود كان يُشير إلى أنّ الهدف هو الجهاد. واللباس الخشن يُشير إلى الوسيلة وهي الحياة الخشنة القتاليّة والثوريّة، والقرآن يُشير إلى أنّ الهدف هو أنّنا نريد الوصول إلى حياة القرآن بهذه الوسائل وهذه الصّعاب الّتي نتحمّلها، أمّا أعداء هذا الإمام عليه السلام فكانوا يشعرون بهذه الأمور.

 

إنّ حياة موسى بن جعفر، أي إمامته، بدأت في أصعب المراحل والمقاطع الزمنيّة. فباعتقادي لا يوجد عصر من بعد عصر الإمام السجّاد عليه السلام بشدّة وصعوبة عصر موسى بن جعفر عليه السلام. فموسى بن جعفر عليه السلام صار إمامًا عام 148 بعد وفاة أبيه الإمام الصّادق عليه السلام.

 

وفي هذا العام كانت أوضاع بني العبّاس قد استتبّت، بعد فراغهم من الصّراعات والخلافات والحروب الّتي كانت دائرة فيما بينهم في بداية حكمهم. فقد قضوا على التّهديد الكبير لخلافتهم والّذي كان يجيء من شخصيّات وجيهة كبني الحسن - محمّد بن عبد الله بن الحسن وإبراهيم بن عبد الله بن الحسن وبقية أولاد الإمام الحسن الّذين كانوا من أشدّ النّاس عداءً ونقمةً على بني العبّاس - حيث قتل العبّاسيّون عددًا كبيرًا من رؤسائهم ووجهائهم، وتبيّن هذا الأمر بعد فتح الأسطوانات والأنبار عند موت المنصور العبّاسي، حيث وجدوا فيها عددًا كبيرًا من الشّخصيّات والأفراد المقتولين الّذين رُميت أجسادهم وظهرت هياكلهم العظمية أيضًا.

 

فلقد قتل المنصور من الشخصيّات المشهورة والمعروفة من بني الحسن وبني هاشم من أقاربه ومن الّذين كان يعدّون من المقرّبين لهم، بحيث إنّه بنى لذلك مخازن خاصّة. وبعد أن فرغ من كلّ هؤلاء وصل الأمر إلى الإمام الصادق عليه السلام، فقتله بالسمّ غيلةً. ولم يعد في أجواء الحياة السّياسيّة للعبّاسيين أيّ غبارٍ، في مثل هذه الظّروف الّتي كان يتمتّع فيها المنصور بأوج السّلطة الظّاهريّة والقدرة، جاء دور خلافة موسى بن جعفر عليه الصّلاة والسلام، الّذي كان شابًّا في مقتبل العمر، وكان يخضع لكلّ هذه الرّقابة.

 

وكان الأمر بحيث إنّ الّذين كانوا يريدون أن يعرفوا إلى من يرجعون بعد الإمام الصادق عليه السلام كانوا يجدون صعوبة بالغة في شقّ الطّريق والوصول إلى موسى بن جعفر عليه السلام. وكان موسى بن جعفر عليه السلام يوصيهم بالحذر لأنّه لو عُرف أنّهم قد سمعوا منه وأخذوا من تعاليمه وارتبطوا به سيكون مصيره الذبح. ففي مثل تلك الظّروف، وصل الإمام موسى بن جعفر عليه السلام إلى الإمامة وبدأ جهاده.

 

وهنا لو سألتم أنّه كيف بدأ موسى بن جعفر جهاده عندما وصل إلى الإمامة؟ وماذا فعل؟ ومن جمع؟ وأين ذهب؟ وأيّ أحداثٍ جرت عليه طيلة هذه الـ 35 سنة؟ فللأسف ليس لهذا العبد جوابٌ واضح، وليس لي سوى الغصص كمحقّقٍ في حياة صدر الإسلام. فلا يوجد في يد أحد سيرةٌ منظّمة ومدوّنة عن هذه المرحلة الممتدّة على 35 سنة. إنّ ما أذكره هنا لم يُكتب، ولم يجرِ حوله أبحاثٌ وتحقيقات، لأجل هذا، ينبغي القيام بمثل هذا الأمر. هناك أشياءٌ متفرّقة يُمكن أن نفهم من مجموعها أشياء كثيرة.

 

إحداها أنّ هناك أربعة خلفاء حكموا في هذه السنوات الـ 35 من عهد إمامة موسى بن جعفر عليه السلام. ومنهم المنصور العبّاسي، الّذي امتدّ حكمه لعشر سنوات من بداية إمامة الإمام موسى بن جعفر عليه السلام، ثمّ جاء ابنه المهديّ من بعده وحكم لعشر سنوات أيضًا. ومن بعد المهديّ، جاء الهادي العبّاسي ليحكم سنةً واحدة، ومن بعده هارون الرّشيد الّذي حكم لمدّة 12 سنة تقريبًا، وقد كان الإمام موسى بن جعفر عليه السلام مشغولًا بالتّبليغ والدّعوة إلى الإمامة. وكلّ واحد من هؤلاء الخلفاء الأربعة، ضايقوا موسى بن جعفر عليه السلام وضغطوا عليه.

 

كان المنصور قد استدعى الإمام عليه السلام بمعنى أنّه قد نفاه أو أحضره جبراً إلى بغداد. وبالطّبع، ما أعرضه هنا هو بعض تلك الحوادث التي جرت. عندما ينظر المرء إلى حياة موسى بن جعفر يرى الكثير من هذه الحوادث، وإحداها هو استحضاره من المدينة إلى بغداد وجعله فيها تحت الرّقابة والضّغوط. وما نستنتجه من الروايات أنّ الإمام عليه السلام قد وُضع في الكثير من المشاكل. وكم امتدّت هذه الحالة، ليس معلومًا. وذات مرّة أحضروا الإمام في زمان المنصور إلى منطقةٍ في العراق تُدعى أبجر، حيث نفوه لمدّةٍ ما، يقول الراوي وصلت إلى هناك، إلى محضر موسى بن جعفر عليه السلام، في ظلّ تلك الأحداث، وكان الإمام يقول كذا ويفعل كذا.

 

وفي زمن المهديّ العبّاسي، أُحضر الإمام عليه السلام مرّة واحدة على الأقل من المدينة إلى بغداد. يقول الراوي: كُنتُ في الطّريق الذي سلكه موسى بن جعفر، في المرّة الأولى التي كانوا يحضرونه فيها إلى بغداد ـ فيُعلم من هذا التّعبير أنّ الإمام عليه السلام كان قد أُحضر عدّة مرّات إلى بغداد، وأنا أحتمل أن يكون قد حصل ذلك مرّتين أو ثلاث في زمن المهدي ـ فوصلت إلى الإمام عليه السلام وتأسّفت وحزنت. فقال لي الإمام: كلّا، لا تغتم، فسأرجع من هذا السفر سالمًا، ولن يتمكّن هؤلاء من إلحاق أيّ ضررٍ بي، هذا كان في زمان المهديّ.

 

وفي زمن الهادي العبّاسي، أرادوا إحضار الإمام لقتله، فحزن أحد الفقهاء المحيطين بالهادي العبّاسي وتألّم قلبه عندما رأى ابن النبيّ يُفعل به هذا، فتوسّط للهادي العبّاسي، فانصرف عن قتله. وفي زمن هارون أيضًا، كانوا قد أحضروا الإمام عليه السلام إلى بغداد، لمدّة طويلة وعلى عدّة مراحل، حيث أحتمل أيضًا أنّه تمّ إبعاد الإمام عن المدينة أكثر من مرّة، ولكنّ القدر المتيقّن هو أنّه تمّ إحضاره مرّة واحدة، وحُبس في أماكن مختلفة، كانت بغداد واحدة منها، كما وُضع في سجون متعدّدة أيضاً، كان آخرها سجن السنديّ بن شاهك حيث استُشهد.

 

انظروا كيف أنّه تم إحضار الإمام موسى بن جعفر عليه السلام عدّة مرّات، على امتداد هذه السنوات الـ 34 أو 35، أثناء انشغاله بالدعوة إلى الإمامة والقيام بالتكليف. علاوة على ذلك، فإنّ خلفاء عصره كانوا قد تآمروا عدّة مرّات على قتله. فبمجرّد أن وصل المهدي العبّاسي ابن المنصور إلى الحكومة حتّى قال لوزيره أو حاجبه الرّبيع أنّه عليك أن تعدّ العدّة لقتل موسى بن جعفر عليه السلام والقضاء عليه، حيث كان يشعر أنّ الخطر الأساس كان يأتي من جانب موسى بن جعفر عليه السلام. وكان الهادي العبّاسي، كما ذكرت، قد عزم في بداية حكومته على قتل الإمام عليه السلام. حتّى أنّه أنشد شعرًا، قائلًا: لقد ولّى الزمان الّذي نعامل فيه بني هاشم باللين ونستسهل أمرهم، وإنّني عازمٌ وحازمٌ على ألّا أُبقي منهم أحداً، وأوّل من سأقضي عليه هو موسى بن جعفر. وفيما بعد، أراد هارون الرّشيد أن يقوم بالأمر نفسه، وقد فعل وارتكب هذه الجريمة الكبرى. فانظروا أيّ حياةٍ مليئة بالأحداث مرّت على موسى بن جعفر عليه السلام.

 

علاوة على ما ذُكر، لا يوجد نقاطٌ كثيرةٌ دقيقة وواضحة في حياة موسى بن جعفر عليه السلام. من المؤكّد أنّ الإمام موسى بن جعفر عليه السلام كان يعيش في مرحلة ما من حياته متخفّيًا ولم يكن معلومًا أين كان يستتر. وفي ذلك الزّمان كان الخليفة يستدعي من وقتٍ لآخر أفرادًا ويُحقّق معهم حول إذا ما كانوا قد رأوا موسى بن جعفر عليه السلام ويسألهم عن مكانه. وكانوا هم يُصرّحون بأنّهم لم يُشاهدوه، حتّى أنّ الإمام موسى بن جعفر عليه السلام ـ كما جاء في رواية ـ كان قد أخبر أحد هؤلاء بأنّهم سيرسلون في طلبك ويسألونك أين رأيت موسى بن جعفر، فأنكر ذلك تمامًا وقال إنّني لم أره. وهذا ما حصل بالفعل، فقد جاؤوا به وسجنوه من أجل أن يسألوه عن مكان موسى بن جعفر.

 

انظروا إلى حياة إنسانٍ لم يكن يفعل سوى أنّه كان يقوم ببيان الأحكام والمعارف الإسلاميّة ولا يتدخّل في الحكومة أو يُمارس المواجهة السّياسيّة، انظروا كيف وضعوه تحت مثل هذه الضغوط. حتّى إنّني رأيت في إحدى الرّوايات بأنّ موسى بن جعفر كان يتخفّى في قرى الشّام، "دخل موسى بن جعفر عليه السلام بعض قرى الشّام هاربًا متنكّراً فوقع في غار" . وقد رُوي في حديثٍ أنّ موسى بن جعفر لم يكن في المدينة لمدّة من الزّمن، وكان يُلاحَق في قرى الشّام من قِبَل الأجهزة الحاكمة، حيث كانت تُرسل الجواسيس في أثره وتلاحقه من هذه القرية إلى تلك القرية، ومن تلك القرية إلى هذه القرية، في لباس مختلف وغير معروف، إلى أن وصل الإمام عليه السلام إلى غارٍ ودخله، فوجد فيه نصرانيًّا. فراح الإمام يتباحث معه، فحتى في مثل هذا الوقت، لم يكن الإمام عليه السلام غافلًا عن تكليفه الإلهيّ في بيان الحقيقة، فيتحدّث مع ذلك النصرانيّ ويُسلم.
 

 


المصدر: كتاب إنسان بعمر 250 سنة، للامام الخامنئي، الفصل الحادي عشر: الإمام الكاظم (ع)

2025-04-18 | 17 قراءة