إنسان بعمر 250 سنة |  شهادة الإمام الكاظم (ع) 04

عندما يريد هارون الرّشيد أثناء الدخول إلى حرم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة في ذلك السفر أن يتظاهر بين المسلمين الّذين يزورونه، ويعلن قرابته من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ينزل إلى قبره ويقول: "السلام عليك يا بن العمّ"، فلا يقول: "يا رسول الله"، فيأتي موسى بن جعفر عليه السلام مباشرةً ويقف قبال الضّريح ويقول: "السلام عليك يا أبتاه" ، أي إذا كنت أنت ابن عمّه، فهو أبي. فيفضح هذا الأسلوب التزويريّ لهارون في هذا المجلس نفسه.

 

شعر من كان من حواشي هارون الرشيد أنّ أكبر خطر على جهاز الخلافة هو وجود موسى بن جعفر عليه السلام. هناك وقف رجلٌ من أتباع جهاز الحكومة والسّلطة ورأى أنّ شخصًا راكبًا يأتي من دون أي نوع من الاعتبارات، ومن دون أن يمتطي حصانًا فاخرًا، ومجرّد أن جاء فُتح له الطّريق وعلى الظّاهر في نفس سفر المدينة ذاك، على ما أظن، ويدخل ويسأل ذاك الرجل: من هو ذا الّذي إذا دخل، خضع الجميع أمامه وفتح له حواشي الخليفة الطّريق ليدخل. قيل له: هذا موسى بن جعفر. وبمجرّد أن قالوا له ذلك، قال: ويلٌ لحماقة هؤلاء، أي بني العبّاس، يجلّون شخصًا يريد زوالهم والقضاء على حكومتهم. فقد كانوا يعلمون أنّ خطر موسى بن جعفر عليه السلام على جهاز الخلافة هو خطرُ قائدٍ كبير يتمتّع بالعلم الوسيع والتقوى والصلاح، ويعرفه الجميع وله أتباعٌ ومحبّون في جميع أرجاء العالم الإسلامي، ويتمتّع بشجاعةٍ لا تخيفه أيّ قوّةٍ مهما بلغت، ولهذا يقف في وجه الأبّهة الظّاهرية لسلطنة هارون ويتحدّث من دون أيّ محاباةٍ أو مجاملة.

 

مثل هكذا شخصيّة مجاهدة ومناضلة ومتّصلة بالله ومتوكّلة على الله لها أنصارٌ في جميع أرجاء العالم الإسلامي ولديها خطّة لأجل إقامة الحكومة والنّظام الإسلاميين. كان هذا يمثّل أكبر خطر على حكومة هارون.

 

لهذا، قرّر هارون أن يزيل هذا الخطر من أمامه. بالطبع، لقد كان هارون رجلًا سياسيًّا لهذا لم يقم بهذا العمل دفعةً واحدة. ففي البداية، كان يرغب أن يتمّ هذا الأمر بطريقة غير مباشرة. بعدها وَجد أنّه من الأفضل أن يسجن موسى بن جعفر عليه السلام، لعلّه يستطيع في السجن من التفاوض معه أو إعطائه امتيازات وأن يضعه تحت الضّغوط من أجل حمله على القبول والإذعان والتسليم. لهذا أمر باعتقال موسى بن جعفر عليه السلام وإحضاره من المدينة، ولكن بطريقة لا تخدش مشاعر أهل المدينة ولا يعرفون ما حلّ بموسى بن جعفر عليه السلام. لهذا، صنعوا مركبين ومحملين ووجّهوا واحدًا منهما إلى العراق وآخر إلى الشام من أجل أن لا يعرف النّاس إلى أين يأخذون موسى بن جعفر. فجاؤوا بموسى بن جعفر إلى مركز الخلافة في بغداد وسجنوه هناك، وامتدّ هذا السّجن لوقتٍ طويل. بالطّبع، ليس من المسلّم أنّ الإمام عليه السلام قد أُخرج من السّجن دفعةً واحدة واعتُقل مجدّدًا، ولكن من المسلّم أنّه اعتُقل مرّة أخرى من أجل أن يُقتل في السجن وهذا ما فعلوه.

 

بالتأكيد، كانت شخصيّة موسى بن جعفر عليه السلام داخل السّجن هي تلك الشّخصيّة الّتي تُشبه المنارة الهادية لكلّ من كان يُحيط بها. فانظروا، الحقّ هو هذا، إنّ حركة الفكر الإسلاميّ والجهاد الّذي يقوم على أساس القرآن هما مثل هذه الحركة، فلا يُمكن أن تتوقّف لحظةً واحدة حتّى في أصعب الظّروف وهذا هو العمل الّذي قام به موسى بن جعفر عليه السلام حيث يوجد في هذا المجال قصصٌ كثيرة وروايات عديدة، وواحدة من أكثرها جمالًا ولفتًا للنظر، أن السنديّ بن شاهك المعروف والّذي تعلمون عنه أنّه كان سجّانًا عنيفًا جدًّا وشديدًا ومن عبيد العبّاسيين والأكثر وفاءً لهذه السلطنة والخلافة في تلك الأيام، وقد كان هذا سجّان موسى بن جعفر عليه السلام، وقد سجن موسى بن جعفر عليه السلام في زنزانة مزرية تحت الأرض، في منزله. وكانت عائلة السنديّ بن شاهك في بعض الأوقات تنظر من طاقة إلى داخل السجن وقد أثّر وضع حياة موسى بن جعفر عليه السلام فيهم وغرس فيهم بذر محبة أهل البيت. فأحد أبناء السنديّ بن شاهك، ويُدعى كشاجم، هو من كبراء التشيّع وأعلامهم. ولعلّ كشاجم كان من أولاد السنديّ لجيلٍ أو جيلين، وكان من عظماء الأدباء والشعراء وأعلام التشيّع في زمانه، وقد ذكر الجميع هذا الأمر، اسمه كشاجم السندي وهو من أولاد السندي بن شاهك.

 

هذا كان حال حياة موسى بن جعفر في السّجن. بالتأكيد لقد جاؤوا مرّات إلى الإمام في السجن وهدّدوه وطمّعوه وأرادوا أن يُرغّبوه لكنّ هذا الإنسان العظيم الّذي اتّصف بتلك الصلابة الإلهيّة، وبالتوكّل على الرّب المتعال واللطف الإلهيّ ونفس هذا الصّمود هو الّذي حفظ القرآن والإسلام إلى اليوم. اعلموا هذا، إنّ استقامة أئمّتنا في وجه تيّارات الفساد هي الّتي أدّت بنا اليوم لإدراك الإسلام الحقيقيّ. يُمكن للأجيال المسلمة وأبناء البشر اليوم أن يُدركوا شيئًا باسم الإسلام والقرآن وسنّة النبيّ في الكتب، أعمّ من كتب الشّيعة وحتّى كتب أهل السنة. لو لم تكن هذه الحركة المجاهدة الشديدة للأئمّة عليهم السلام طيلة هذه الـ 250 سنة فاعلموا أنّ الكتّاب والخطباء المأجورين لعصر الأمويين والعبّاسيين كانوا ليُبدّلوا الإسلام بالتدريج، وكانوا يفعلون ذلك، وبعد مرور قرنين، لما كان بقي من الإسلام، أو لما كان بقي القرآن، أو لكان القرآن محرّفًا. إنّ هذه الرايات الخفّاقة وتلك المشاعر المتّقدة وهذه المنارات الرفيعة هي الّتي وقفت في تاريخ الإسلام وأطلقت شعاع الإسلام بحيث إنّ كلّ المحرّفين والّذين أرادوا أن يقلبوا الحقائق في تلك البيئة المظلمة لم يتمكّنوا من أن يُحقّقوا ما أرادوا. كان تلامذة الأئمّة عليهم السلام من جميع الفرق الإسلاميّة ولم يكونوا من الشّيعة فقط، وأولئك الّذين كانوا من تلامذة الأئمّة والّذين لم يكونوا يعتقدون بأهداف التشيّع، أي الإمامة الشيعيّة، كانوا كثر. وقد تعلّموا التفسير والقرآن والحديث وسنّة النّبيّ من الأئمّة. إنّ هذه المقاومة هي الّتي حفظت الإسلام إلى يومنا هذا.

 

في النهاية قُتل موسى بن جعفر عليه السلام في السجن مسمومًا. ومن أشدّ مرارات سيرة الأئمّة هي شهادة موسى بن جعفر عليه السلام. وبالطّبع، لقد كانوا يريدون في ذلك الوقت أن يتظاهروا بالحسنى. ففي الأيام الأخيرة، جاء السنديّ بن شاهك بمجموعة من الوجوه والمشاهير الكبار الّذين كانوا في بغداد ليجتمعوا حول الإمام عليه السلام وقال لهم انظروا إنّ وضع حياته جيّد ولا يوجد أيّ مشكلة. فقال الإمام عليه السلام : نعم، ولكن اعلموا أنّهم سيقتلونني مسمومًا. وقد قُتل الإمام مسمومًا ببضعة حبوب من التّمر، وتحت تلك الأغلال والقيود الّتي قيّدوا بها عنقه وقدميه، وهكذا ارتفعت روح الإمام العظيم والمظلوم والعزيز في السجن، إلى الملكوت الأعلى ووصل إلى الشهادة.

 

بالطبع، كان هؤلاء يخافون من جنازة الإمام موسى بن جعفر عليه السلام أيضًا، وكذلك من قبر موسى بن جعفر عليه السلام. ولهذا عندما أخرجوا جنازة الإمام موسى بن جعفر عليه السلام من السّجن وكانوا يُطلقون الشعارات الّتي تدلّ على أنّ هذا الشخص كان خارجيًّا ويثور على الحكومة، كانوا يقولون هذه الكلمات لكي يجعلوا شخصيّة موسى بن جعفر عليه السلام في مورد التّهمة. وقد كانت أجواء بغداد بالنسبة للجهاز الحاكم أجواءً غير مستقرّة إلى درجة أنّ أحد عناصر جهاز الحكم نفسه وهو سليمان بن جعفر - سليمان بن جعفر بن المنصور العبّاسي أي ابن عم هارون الّذي يُعدّ من أشراف العبّاسيين ـ قد وجد أنّ هذا الوضع من الممكن أن يخلق لهم مشكلة، فقام بدورٍ آخر وأحضر جنازة موسى بن جعفر عليه السلام ووضع كفنًا قيّمًا على الجنازة، وجاء بكلّ احترام إلى الإمام في مقابر قريش، الّتي تُعرف اليوم بـ "الكاظميين"، ودفنوا الإمام عليه السلام في المرقد المطهّر القريب من بغداد، وهكذا ختم موسى بن جعفر حياةً مليئةً بالجهاد.

(12/04/1985)

 


المصدر: كتاب إنسان بعمر 250 سنة، للامام الخامنئي، الفصل الحادي عشر: الإمام الكاظم (ع)

2025-04-18 | 137 قراءة