إنسان بعمر 250 سنة | الغموض الذي لف حياة الإمام الصادق (ع) 01

إنّ إحدى الأشياء المؤسفة جدًّا، والّتي يُمكن أن تواجه الباحث حول حياة الإمام الصادق عليه السلام, هي أنّ تفاصيل حياة هذا الإمام، لا سيّما في السّنوات الأولى من إمامته، والّتي تزامنت مع نهاية حكم بني أميّة، محاطة بهالة من الغموض. فهذه الحياة المليئة بالأحداث والمؤثّرة في أحداثٍ كثيرة، والّتي يُشاهَد فيها الاضطرابات والتحوّلات الكبرى من طيّات مئات الرّوايات التّاريخيّة، (فهذه الحياة المليئة بالأحداث، والتي هي منشأ للأحداث، والتي يُمكن مشاهدة كفاحاتها وصعودها وهبوطها في طيّات مئات الرّوايات التاريخية)، نجد أنّها لم تنعكس، لا في التّاريخ، ولا في أقوال المحدّثين وكتّاب التذكرة، بنحوٍ منظّم ومترابط على الإطلاق، وإنّ زمن وخصوصيّات أكثر الأحداث لم يتم تحديدها. فعلى الباحث أن يعتمد على القرائن وملاحظة الأحداث العامّة في ذلك الزمان، ويُقارن كلّ رواية مع ما لديه من معلومات بشأن الأشخاص أو الأحداث المذكورة بالمصادر الأخرى ليكشف عن زمان ومكان وخصائص تلك الحادثة. ولعلّه ينبغي البحث عن أسباب هذا الغموض والإبهام لا سيّما فيما يتعلّق بالأنشطة التنظيميّة للإمام مع أتباعه في ماهيّة هذه الأعمال.

 

الأعمال السرّية والتنظيميّة في العادة، إذا تلازمت مع الأصول الصّحيحة للعمل السريّ يجب أن تبقى سريّة ومخفيّة دائمًا. فهي تكون خفيّة في ذلك الزمان، وينبغي أن تبقى كذلك فيما بعد، وإنّ تكتّم وسريّة أصحابها لا يسمحان لأيّ غريبٍ أن يصل إليها. حتّى إذا وصلت هذه الأعمال إلى الثّمرة المطلوبة، وتمكّن المنفّذون والعاملون من الإمساك بالسّلطة فإنّهم سوف يكشفون دقائق هذا العمل السرّي للملأ، لذا نجد اليوم أنّ الكثير من الدّقائق، بما في ذلك التّوجيهات الخاصّة والاّتصالات السريّة لزعماء بني العبّاس مع عناصر منظّمتهم التّابعين لهم، في مرحلة الدعوة العبّاسية قد تمّ توثيقها في التّاريخ وهي معروفة من قِبَل الجميع.

 

ولا شكّ أنّه لو كانت النّهضة العلويّة قد وصلت إلى ثمرتها وصارت السّلطة والحكومة بأيدي أئمةّ الشّيعة أو من اختاروهم، لكنّا اليوم على اطّلاعٍ على جميع الأسرار المختومة لدعوتهم العلويّة وتشكيلاتهم المنتشرة في كلّ الأماكن والّتي كانت فائقة السرّيّة.

 

ينبغي البحث عن السّبب الآخر في خصال كُتّاب التاريخ وكتابة التاريخ. فلو كان لجماعةٍ مدانة ومظلومة ذكر في التّاريخ الرّسميّ وتوثيق لذكرياتها، فلا شكّ بأن ذلك كان ليكون بطلب وقولٍ وإيعاز من الحاكم والظّالم. إنّ توثيق المجريات والأحداث الخاصّة بالمحكومين، فضلًا عن أنّها مدمية للقلب، فهي بالنّسبة لمؤّرخ التّاريخ، تتطلّب الكثير من الجهد والسّعي والبحث هنا وهناك مصاحب مع الكثير من الخوف، بينما يوجد الكثير من الأخبار والمجريات بين أيدي الحكّام والتي يُمكن الحصول عليها من دون أيّ عناء أو اضطراب أو خطر ويُمكن تقاضي الأجر عليها!

 

ولنضع الآن هذه الحقيقة الواضحة إلى جانب الوقائع الأخرى. إنّ جميع التّواريخ المعروفة والمعتبرة، والّتي تُشكّل وثائق ومصادر أكثر التّحقيقات والدّراسات اللاحقة، والّتي دُوّنت وبقيت إلى ما بعد حياة الإمام الصادق عليه السلام بخمسمائة سنة، كانت ذات صبغة عبّاسية، لأنّه وكما نعلم، فإنّ حكومة العبّاسيين قد استمرّت إلى منتصف القرن السابع الهجري، وجميع التواريخ القديمة المعروفة قد كُتبت وأُلّفت في مرحلة زعامة وسلطنة هذه السلالة المتجبّرة. وبناءً عليه، يُمكن تخمين النّتيجة. فمن غير المتوقّع على الإطلاق، من أيّ مؤرّخٍ من مؤرّخي العصر العبّاسي أن يستطيع أو أن يطلب تحصيل المعلومات الصّحيحة والمنظّمة حول حياة الإمام الصّادق، أو أيٍّ من أئمّة الشّيعة الآخرين عليهم السلام، وأن يوثّقها في كتابه.

 

وهذا هو سرّ الكثير من التّحريفات والمبهمات في حياة الإمام الصّادق عليه السلام. والطّريق الوحيد الّذي يُمكّننا من التعرّف على الخطّ العام لحياته هو أن نجد نماذج مهمّة لحياة هذا الإمام في ثنايا كل هذا الإبهام والغموض، بالاستمداد ممّا نعرفه من الأصول العامّة لفكر هذا الإمام وأخلاقه فنرسم الخطوط الأساس لحياته، بعدها نبقى بانتظار القرائن التاريخية المتفرّقة وغير التاريخيّة لتحديد الخصوصيّات والدقائق.

(قيادة الإمام الصادق عليه السلام، ص65-68)


 
عندما انتقل الإمام الباقر عليه السلام من هذه الدنيا، كانت الأوضاع والأحوال قد تغيّرت كثيرًا لمصلحة أهل البيت عليهم السلام، إثر النّشاطات المكثّفة الّتي جرت طيلة مدّة إمامته وإمامة الإمام السجّاد عليهما السلام. وأُبيّن لكم بكلمتين خطّة الإمام الباقر والإمام الصادق عليهما السلام الّتي كانت بالطّبع من الأسرار في ذلك الزّمان. أسرار، مثل أن يُقال مثلًا، وكما تسمعون، إنّ جابر بن يزيد الجعفيّ كان من أصحاب السرّ، فكلّ من ينشر سرّنا فسوف تحلّ عليه لعنة الله وغيرها وغيرها، تلك الأسرار الّتي لو أُذيعت في ذلك الزمان، لحلّت لعنة الله على من يُذيعها، هي نفسها الّتي أُريد الآن أن أكشفها، لكن غاية الأمر أنّه لا يوجد اليوم أيّ مشكلة في إظهارها، لا بل هو أمرٌ واجبٌ أن يعلم النّاس ماذا كان يريد الإمام عليه السلام أن يفعل.

 

كانت خطّة الإمام الصادق عليه السلام هي أن يجمع الأمور بعد رحيل الإمام الباقر عليه السلام وينهض بثورة علنيّة ويسقط حكومة بني أميّة ــ الّتي كانت في كلّ يومٍ تبدّل حكومة، ما يحكي عن منتهى ضعف هذا الجهاز، وأن يأتي بالجيوش من خراسان والريّ وأصفهان والعراق والحجاز ومصر والمغرب وكلّ المناطق الإسلاميّة، الّتي كان فيها شبكات حزبيّة للإمام الصادق عليه السلام، أي الشّيعة، وأن يحضر كلّ القوّات إلى المدينة ليزحف نحو الشّام ويسقط حكومتها ويرفع بيده راية الخلافة، وأن يأتي إلى المدينة ويعيد حكومة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إليها، هذه كانت خطّة الإمام الصادق عليه السلام.

 

لهذا، عندما كان يجري الحديث عند الإمام الباقر عليه السلام في أيّام عمره الأخيرة ويُسأل من هو قائم آل محمّد، كان ينظر إلى الإمام الصادق عليه السلام ويقول كأنّني أنظر إلى قائم آل محمد هذا. بالطبع، أنتم تعلمون أنّ قائم آل محمّد هو اسمٌ عام وليس اسمًا خاصًّا، فليس هو اسم وليّ العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف. فوليّ العصر هو قائم آل محمد النهائيّ، لكن كلّ الّذين نهضوا من آل محمّد على مرّ الزمان ـ سواءٌ انتصروا أم لا ـ كلّ واحدٍ منهم هو قائم آل محمّد. وتلك الرّوايات الّتي تقول أنّه عندما يقوم قائمنا يفعل هذا ويفعل ذاك ويُحقّق ذلك الرّفاه ويُقيم ذلك العدل، لم يكن المقصود منها حضرة وليّ العصر في ذلك الزّمن، بل كان المقصود أنّ ذاك الرّجل من آل محمّد الّذي من المقرّر أن يُقيم حكومة الحقّ والعدل، فإنّه عندما يقوم سوف يفعل هذه الأمور وهذا أمرٌ صحيحٌ. وقد كان من المقرّر للإمام الصادق عليه السلام أن يكون قائم آل محمّد في ذلك الزمان. لقد وصل الإمام الصادق عليه السلام إلى الإمامة في مثل هذه الحالة.

 

لقد كان الإمام الصّادق عليه السلام رجل الجهاد والمواجهة ورجل العلم والمعرفة ورجل التنظيم والتشكيلات. لقد سمعتم جميعًا الكثير عن علمه، فمحافل دراسته وميادين تعليمه الّتي أوجدها لم يكن لها نظير لا قبله ولا بعده في تاريخ حياة أئمّة الشّيعة، فلقد بيّن الإمام الصّادق عليه السلام كلّ ما ينبغي أن يُقال بشأن المفاهيم الإسلاميّة الصّحيحة والقرآنيّة الأصيلة الّتي تعرّضت للتّحريف طيلة قرنٍ ونيّف من الزمان بواسطة المغرضين والمفسدين أو الجاهلين، وهذا الأمر هو الّذي أدّى إلى أن يشعر العدوّ بخطره، لكنّكم قليلًا ما سمعتم عن جهاده. لقد كان الإمام الصادق صلوات الله عليه، مشغولًا بجهادٍ واسع النّطاق من أجل الإمساك بالحكومة والسّلطة وإيجاد حكومةٍ إسلاميّة وعلويّة. أي إنّ الإمام الصادق سلام الله عليه، كان يُهيّئ الأرضيّة للقضاء على بني أميّة والمجيء بحكومة علويّة أي حكومة العدل الإسلاميّ. فهذا ما يتّضح من حياة الإمام الصادق عليه السلام لكلّ من يُطالع ويُدقّق.

 

أمّا ذاك البعد الثالث الّذي لم يُسمع عنه من الأساس، فهو أنّه كان رجل التنظيم والتشكيلات. لقد أوجد الإمام الصادق صلوات الله عليه، تشكيلات عظيمة من المؤمنين به ومن أتباع تيّار الحكومة العلويّة في مختلف أرجاء العالم الإسلاميّ، من أقصى خراسان وما وراء النّهر إلى شمال أفريقيا. فماذا تعني التشكيلات؟ إنّها تعني أنّه عندما يريد الإمام الصّادق عليه السلام أن يُعلم النّاس بأيّ شيءٍ فإنّه يفعل ذلك من خلال وكلائه المتواجدين في مختلف آفاق العالم الإسلاميّ، كما إنّها تعني جمع كلّ الحقوق الشّرعيّة والميزانيّة المطلوبة لإدارة مواجهة سياسيّة عظيمة لآل عليّ، كما تعني رجوع أتباع الإمام الصّادق عليه السلام إلى وكلائه وممثّليه المتواجدين في جميع المدن لمعرفة تكليفهم الدينيّ والسياسيّ من الإمام. التكليف السياسيّ هو كالتكليف الدينيّ من حيث الوجوب. فإنّ الفتوى الدينيّة والإسلاميّة في باب الصلاة والزكاة والصيام وباقي الواجبات لذاك الّذي يكون بالنسبة لنا واجب الطّاعة ووليّ الأمر، لا تختلف عن فتواه وأوامره السياسيّة في مجال الجهاد والعلاقات السّياسيّة والعلاقات الداخلية وجميع القضايا، فكلّ ذلك يجب تنفيذه.

 

لقد أوجد الإمام الصادق عليه السلام مثل هذه التشكيلات العظيمة، وبهذه التشكيلات وبمساعدة من كان داخلًا فيها من النّاس، كان (الإمام) يواجه جهاز بني أميّة. وبالطبع، إنّ ما جرى على الإمام الصادق عليه السلام هو أمرٌ مهمٌّ جدًّا ومليءٌ بالعبر، فقد كان يواجه بني أميّة لمدّة عشر سنوات وكذلك بني العبّاس (فقد واجههم) لمدّة طويلة، وعندما كان انتصاره على بني أميّة حتميًّا جاء بنو العبّاس كتيّارٍ انتهازيٍّ ونزلوا إلى الميدان ومن بعدها صار الإمام الصادق عليه السلام يواجه بني أميّة وبني العبّاس أيضاً.

 

وقد نُقل عن الطّبريّ - المؤرّخ المعروف - أمورٌ تتعلّق بمحاربة الإمام عليه السلام لبني أميّة في مطلع السنوات العشر لإمامته. كانت مواجهة الإمام الصادق عليه السلام في هذه المرحلة قد أضحت علنيّة، فلم يكن يحتاج إلى التقيّة والكتمان وذلك بسبب أنّ خلفاء بني أميّة كانوا مشغولين إلى درجة أنّه لم تُتح لهم الفرصة ليُلاحقوا الإمام الصادق وشيعته، كما لم يكن لديهم القدرة على قمعهم، لذا لم يحتج الإمام الصادق عليه السلام إلى إخفاء عمله..

 

كان الإمام الصادق عليه السلام يذهب يوم عرفة إلى عرفات ويقف بين هذه التجمّعات الكبيرة - والّتي جاءت من جميع نقاط العالم الإسلاميّ، من أفريقيا والشّرق الأوسط والحجاز والعراق، ومن إيران ذلك اليوم، ومن خراسان وأفغانستان ذلك اليوم، وتركستان الشرقية ـ فقد توافدت النّاس من جميع الأقطار، بحيث لو فجّرت قنبلةً في هذا المكان تكون وكأنّك فجّرتها في كلّ العالم الإسلامي، وإذا قُلتَ شيئًا في هذا المحفل والتجمّع، تكون وكأنّك نشرته عبر شبكة إعلاميّة عالميّة. فكان الإمام الصادق عليه السلام يأتي إلى داخل هذا التجّمع الكبير ويُعلن بصراحة وبشكلٍ رسميّ للنّاس أنّ الإمام والحاكم بحقّ في هذا اليوم هو جعفر بن محمد وليس أبي جعفر المنصور، وكان يأتي بالدّليل على ذلك، لا الاستدلال الكلامي والعقلاني لأنّه لم يكن لدى النّاس في ذلك الوقت الاستعداد للاستماع إلى مثل هذا النّوع من الاستدلال، فهو لم يكن واضحًا في مثل ذاك المجتمع، بل كان استدلالٌ من نوعٍ آخر، لأنّ المنصور العبّاسي وأمثاله، ولأجل أن يقنعوا أذهان النّاس ويتظاهروا بأنّهم خلفاء النبيّ، قد جعلوا سلسلة نسبية لأنفسهم، وكانوا يقولون إنّنا نحن أبناء العبّاس، فقد كان لهم سلسلتان من النّسب، وكانوا في كلّ مرّة يُصرّحون عن واحدة منها.

 

كان أحدها أنّهم كانوا يقولون نحن أبناء العبّاس عمّ النبيّ، وبعد رحيله أضحت الخلافة لبني هاشم، وبين بني هاشم فإنّ الأكبر سنًّا وكما يُقال الأنسب، هو العبّاس عمّ النبيّ. فالخلافة بعد النبيّ كانت للعبّاس ولأنّنا نحن أبناؤه فإنّها تصل إلينا. كان هذا نحو من كلامهم. وكانوا يتحدّثون عن سلسلةً نسبيّةً أخرى، فيقولون نحن أبناء عليّ العبّاسي، أي عليّ بن عبد الله بن عبّاس، وحقّاً كانوا يقولون لأنّهم كانوا أحفاد عليّ العبّاسي أو أبناءه، وهو تلميذ محمد بن الحنفيّة، ومحمّد بن الحنفيّة هو ابن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام الّذي هو صهر النبيّ. فالخلافة انتقلت من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى عليّ عليه السلام ومن عليّ عليه السلام إلى محمّد بن الحنفيّة ـ لا إلى الحسن والحسين ـ ومنه وصلت إلى ابن عبد الله بن العبّاس ـ الّذي هو جدّنا ـ ومنه وصلت إلينا، فنحن إذًا خلفاؤه.

 

فكانوا يؤلّفون سلسلةً نسبيّة على هذا النّحو، وكان هذا الأمر مقنعًا لأذهان النّاس في ذاك الزمان، لأنّ مستواهم الفكريّ كان متدنّيًّا، لهذا كان الإمام يقف وسط هذا التجمّع الكبير، ويُبيّن السلسلة الصحيحة للإمامة: "أيّها النّاس إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان الإمام، ثمّ كان علي بن أبي طالب" ، وهو منطق الشّيعة المعروف ومن بعده الحسن ثمّ الحسين ومن بعده عليّ بن الحسين، ومن بعده محمّد بن عليّ، ومن بعده أنا. فيعرّف نفسه كإمامٍ ومثل هذا كان يتطلّب شجاعة كبيرة، ولم يكن بالكلام العاديّ البسيط، بل كان ذلك أكبر إعلانٍ للمخالفة والمعارضة. كان الإمام الصادق عليه السلام يقوم بمثل هذا العمل في أواخر عصر بني أميّة. أمّا في عهد بني العبّاس فلم يعد الأمر كذلك، بل كان يجري بالتقيّة والكتمان، وسبب ذلك أنّ بني العبّاس كانوا يرفعون شعارات آل عليّ ومواقفهم باللسان فكان ظاهرهم ظاهر آل عليّ، وعملهم عمل بني أميّة.

 

لقد كانت المواجهة في عصر حكومة بني أميّة على هذا الشكل، وفي عصر بني العبّاس ـ الذي دام لمدةٍ أطول - أضحت (المواجهة) أكثر خفاءً، حيث كان بنو العبّاس يُمثّلون ذلك التيّار الانحرافيّ الّذي انتهز الفرصة، وحرّف الثّورة الّتي كان الإمام الصادق عليه السلام بصددها، وهذا هو الخطر الدائم لكلّ الثورات، حيث يتم أحيانًا استبدال الخطّ الصحيح للثّورة الّذي يتطابق مع معاييرها وضوابطها الأساس، بخطٍّ بديلٍ منحرفٍ فاسدٍ باطلٍ تحت شعارات الحقّ. من هنا على الإنسان أن يكون حذرًا وواعيًا. ولم يكن أهل ذلك الزمان يمتلكون مثل هذا الوعي، فبعد سنوات، لعلّه بعد ثلاثين أو عشرين سنة، كان سكّان المناطق النّائية ما زالوا يظنّون - بعد مجيء بني العبّاس إلى الحكومة ــ بأنّ هذا الأمر حصل نتيجة جهادهم من أجل آل عليّ، لقد كانوا يتصوّرون بأنّ هذه هي نفسها حكومة آل علي، فلم يكن لديهم علم بأنّهم غاصبون (للخلافة).

(05/09/1980)

 

لقد عاصر الإمام الصادق مرحلتين في هذه الفترة. الأولى تمتدّ من عام 114 هـ إلى 132 أو 135هـ. أي إلى سنة انتصار بني العباس واستلام المنصور للخلافة، وقد تميّزت هذه المرحلة بالهدوء والانفتاح، وذلك بسبب النّزاع الّذي كان دائرًا بين بني أميّة وبني العبّاس، فوجد الأئمّة عليهم السلام في تلك الفترة فرصة لنشر العلوم الإسلاميّة. ولم يمرّ الإمام الباقر عليه السلام بمثل هذه الظروف لأنّها كانت خاصّة بعصر الإمام الصادق عليه السلام. ففي عهد الإمام الباقر عليه السلام كانت الفترة فترة غطرسة بني أميّة. وكان هشام بن عبد الملك ــ الّذي قيل فيه كان هشام رجلهم، حيث كان أكبر شخصيّة بعد عبد الملك ــ في سدّة الحكم وكانت فترة حكمه في عهد الإمام الباقر عليه السلام. بناءً عليه، لم يكن في عهد الإمام الباقر عليه السلام أيّ اختلاف بين شخصٍ وآخر، حتّى يتمكّن الأئمّة عليهم السلام بموجبها من الاستفادة من الفرصة. أمّا زمن الإمام الصّادقعليه السلام، فقد مثّل بداية انتشار دعوة بني العبّاس، التي كانت تنتشر شيئًا فشيئًا، وزمن وصول الدعوة الشيعيّة العلويّة إلى أوجها في جميع أنحاء العالم الإسلاميّ.

 

.. ومع وصول المنصور إلى سدّة الحكم والخلافة، فبالطّبع، لقد أصبح الوضع صعبًا، وعادت حياة الإمام الصّادق عليه السلام لتكون كحياة الإمام الباقرعليه السلام في زمانه، تتّسم بالقمع وممارسة الضغوطات على الإمام، وفي الوقت نفسه لقد تمّ نفي الإمام عليه السلام عدّة مرّاتٍ إلى الحيرة، والرُميلة، وإلى هذا المكان، وذاك المكان. لقد استحضر المنصور الإمام عدّة مرّات. وفي إحدى المرّات قال له: "قتلني الله إن لم أقتلك" ، وفي إحدى المرّات، قام بإرسال كتاب إلى والي المدينة قائلاً: "أنْ أحرِق على جعفر بن محمد داره"، وعندما أُحرٍق داره، جاء الإمام وأظهر غربته وسط هذا الحريق: "أنا ابن أعراق الثرى" . ممّا أدّى إلى زيادة سخط أعدائه أكثر. فمعاملة المنصور للإمام الصادق عليه السلام كانت معاملة شديدة جدًّا. فقد قام بتهديد الإمام عدّة مرّات.

 

بالطّبع فإنّ تلك الرّوايات التي تنقل أنّ الإمام عليه السلام كان يتذلّل ويظهر الخضوع للمنصور، لا أساس لها من الصحّة. فأنا قد بحثت حول هذه الروايات ولم يكن لأيّ واحد منها أيّ أساس أو سندٍ صحيح ومعتبر. وغالبًا ما تنتهي في سندها إلى ربيع الحاجب هذا المقطوع بفسقه، الّذي كان من المقرّبين للمنصور. كان البعض قد نقل بسذاجة أنّ الربيع كان شيعيًّا. الرّبيع، من أين له التشيّع؟! لقد بحثنا في حياة الربيع بن يونس، إنّ الربيع بن يونس هو من الأشخاص الذين وُلدوا في منزل أسيادهم، وأتى إلى جهاز حكم بني العبّاس وكان عبدًا لهم وحاجب المنصور وكان قد قدّم لهم الخدمات الكثيرة، وعندما كان المنصور يحتضر، كانت الخلافة لتذهب من أيدي عائلته لولا الربيع.

 

كان أعمامه موجودين، فقام الرّبيع بتزوير الوصيّة لتصبح الخلافة للمهديّ بن المنصور، وهكذا أوصل المهديّ إلى الخلافة، فهذه العائلة هي من العوائل الوفيّة والمخلصة لبني العباس، ولم يكن لهم أيّ ولاء لأهل البيت عليهم السلام. وكل ما وُضع (عن الربيع حول الإمام) فهو تلفيق وكذب، من أجل إظهار الإمام عليه السلام للمسلمين آنذاك بالإنسان المتذلّل والخاضع أمام الخليفة حتّى يعتبر الآخرون أنّ هذا هو تكليفهم أيضًا. على كلّ حال، فإنّ معاملة المنصور للإمام الصادق عليه السلام كانت معاملة قاسية جدّاً، إلى أن انتهت بشهادة الإمام عليه السلام وذلك في عام 148 هـ.

(19/07/1986)

 

من وجهة النّظر الخاصّة ببحثنا فإن المعالم الهامّة والبارزة في حياة الإمام الصادق عليه السلام هي:
1- تبيان وتبليغ مسألة الإمامة.
2- تبليغ وبيان أحكام الدّين وفق منهج الفقه الشيعيّ وأيضًا تفسير القرآن على أساس الرؤية الشيعيّة.
3- إقامة تنظيم سرّي أيديولوجي ـ سياسي.


(قيادة الإمام الصادق عليه السلام، ص67)

 


المصدر: كتاب إنسان بعمر 250 سنة، للامام الخامنئي، الفصل العاشر: الإمام الصادق (ع)

 

2025-04-18 | 24 قراءة