
ما كان يُشكّل بيت القصيد لدعوة الإمام الصّادق عليه السلام، كغيره من أئمّة الشّيعة الآخرين، هو موضوع الإمامة. ومن أجل إثبات هذه الحقيقة التاريخيّة فإنّ أكثر الوثائق قاطعيّةً هي الرّوايات الكثيرة الّتي نُقل فيها دعوى الإمامة عن لسان الإمام الصادق عليه السلام بوضوحٍ وصراحةٍ تامّة.
وكما سوف نُبيّن، كان الإمام عليه السلام أثناء ترويج وتبليغ هذا الأمر يرى نفسه في مرحلةٍ من الجهاد، حيث كان عليه أن يتبرّأ بشكل مباشر وصريح من حكّام زمانه، وأن يُعرّف النّاس على نفسه كصاحب حقٍّ واقعيٍّ للولاية والإمامة، وإنّ هذا العمل في الأساس لا يُمكن أن يتحقّق إلّا إذا طُويت المراحل السّابقة للجهاد والنّضال بنجاح، فتبرز مظاهر الوعي السياسيّ والاجتماعيّ في شريحةٍ واسعةٍ، ويتمّ استشعار الجهوزيّة والاستعداد الكامن في كلّ الأماكن، وتكون قد أُسّست الأرضيّة الأيديولوجيّة في جماعةٍ معتدٍّ بها، ويكون قد ثبت لعددٍ كبيرٍ من النّاس ضرورة حكومة الحقّ والعدل، وفي النّهاية يتّخذ القائد قراره الرّاسخ من أجل المواجهة النّهائية. فمن دون كلّ هذه الأمور، يُصبح طرح اسم شخصٍ معيّن كإمامٍ وقائدٍ محقّ للمجتمع هو عملٌ متهوّرٌ لا فائدة منه.
النّقطة الأخرى الّتي ينبغي الالتفات إليها هي أنّ الإمام عليه السلام لا يكتفي في العديد من الموارد بأن يثبت الإمامة لنفسه، بل يذكر أسماء أئمّة الحقّ الذين سبقوه إلى جانب اسمه أيضًا، وفي الحقيقة، فإنّه يطرح سلالة إمامة أهل البيت المتّصلة والّتي لا يُمكن تفكيكها. ومثل هذا العمل، بالالتفات إلى أنّه وفق الفكر الشيعيّ يدين كلّ الحكّام السّابقين الجائرين ويعدّهم طواغيت، ويمكن أن يكون إشارة إلى ارتباط جهاد الشّيعة في هذا الزّمان بالأزمنة الماضية. وفي الواقع، فإنّ الإمام الصادق عليه السلام بهذا البيان، يعدّ إمامته كنتيجة حتميّة لإمامة من سبقه، وبهذه الطّريقة يُخرجها من تلك الحالة المنقطعة والفاقدة للجذور والأصول، ويوصل سلالته بتلك القناة الموثوقة والثابتة للنبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم.
والآن، التفتوا إلى عدّة نماذج من كيفيّة دعوة الإمام عليه السلام:
إنّ أكثر رواية لفتت نظري في هذا الباب هي رواية عمرو بن أبي المقدام والّتي ترسم لنا مشهدًا عجيبًا. ففي التّاسع من ذي الحجّة ـ يوم عرفة ـ اجتمع عددٌ كبيرٌ من الخلائق في عرفات من أجل أداء مراسم ذلك اليوم الخاصّ، ومن الطّبيعيّ أن يجتمع فيه ممثّلون عن كلّ المناطق الّتي يسكنها مسلمون من أقصى خراسان إلى ساحل البحر المتوسّط. ومن الممكن لكلمةٍ واحدةٍ في غير موضعها في هذا المكان، أن تستأصل عمل أكثر الشّبكات الإعلاميّة العامّة انتشارًا في ذلك الزّمان. فيوصل الإمام عليه السلام نفسه إلى هذا الجمع، ويحمل له رسالةً. ويقول الرّاوي: رأيت الإمام عليه السلام يقف بين النّاس ويعلن نداءه ثلاث مرّات ويرفع صوته بأقصى ما يقدر عليه، بنداءٍ ينبغي أن يطرق أسماع الجميع في كلّ الأماكن وليصل عبرهم إلى كلّ أنحاء العالم الإسلاميّ. فنجده يتلفّت إلى كلّ الجهات، ويُكرّر كلامه ثلاث مرّات، وهكذا يفعل حتّى يبلغ تكرار كلام هذا الإمام اثنا عشرة مرّة. وقد أطلق نداءه هذا بمثل هذه العبارات: "أيّها النّاس إنّ رسول الله كان الإمام، ثمّ كان عليّ بن أبي طالب، ثمّ الحسن، ثمّ الحسين، ثمّ عليّ بن الحسين، ثمّ محمّد بن عليّ، ثمّ..." .
وحديثٌ آخر، عن أبي الصّباح الكنانيّ، يصف فيه الإمام الصادق عليه السلام نفسه وباقي أئمّة الشّيعة بمثل هذه العبارات: "نحن قومٌ فرض الله طاعتنا، لنا الأنفال، ولنا صفو المال..." . وصفو المال هي الأموال المصطفاة الّتي يخصّ الطّواغيت المتجبّرون أنفسهم بها، ويقطعون أيدي المستحقّين عنها، وعندما تخرج هذه الأموال المغصوبة بفضل انتصار المقاتلين المسلمين من أيدي الظّالمين المهزومين، فإنّها لا تُقسّم كغيرها من الغنائم لتكون في اختيار شخصٍ ما، فتمنحه مقامًا كاذبًا وفخرًا مزيّفًا، بل إنّها تودع بيد الحاكم الإسلاميّ الّذي عليه أن يستعملها في جهة مصالح المسلمين العامّة. فالإمام عليه السلام في هذه الرّواية يُعرّف نفسه على أنّه صاحب صفو المال وكذلك الأنفال ـ الّتي هي أيضًا من متعلّقات الإمام ـ وبهذا البيان يوضّح أنّه هو الحاكم الحالي للمجتمع الإسلاميّ، وأنّه يجب أن تصل إليه كلّ هذه الأموال وأن تكون بيده وأن تُستعمل بحسب رأيه في مواردها الصحيحة.
وفي حديثٍ آخر، يُسمّي الأئمّة السّابقين واحدًا واحدًا، ويشهد على إمامتهم ولزوم طاعتهم واتّباعهم، وعندما يصل إلى اسمه يسكت. والّذين كانوا يسمعون حديث الإمام عليه السلام يعلمون جيّدًا أنّ ميراث العلم والحكومة بعد الإمام الباقر عليه السلام هو بيد الإمام الصّادق عليه السلام. وبهذا الإجراء يطرح حقّه في قيادة وحكومة المجتمع مثلما أنّه يُبيّن بأسلوبٍ استدلاليّ علاقته واتّصاله بجدّه الأكبر، عليّ بن أبي طالب . ويُمكن أن نجد الكثير من الشّواهد، في أبواب كتاب الحجّة من الكافي، وكذلك في المجلّد السابع والأربعين من بحار الأنوار، على مثل هذا الحديث الّذي يُعلن فيه الإمام دعوى الإمامة بالتصريح أو الكناية.
الوثيقة القاطعة الأخرى، تذكر شواهد على الشّبكة التبليغيّة الواسعة للإمام عليه السلام في كلّ أنحاء الدّولة الإسلاميّة، وتجعل وجود مثل هذه الشّبكة أمرًا مسلّمًا. هذه الشّواهد، من الكثرة والثّبوت بحيث إنّه لو لم يكن هناك حديثٌ واحدٌ صريح فإنّ ذلك لا يخدش بحتميّة الموضوع. فمن يُطالع حياة الأئمّة عليهم السلام غير المدوّنة، يتساءل في نفسه: ألم يكن لأئمّة الشّيعة في نهايات عصر بني أمّية من الدّعاة والمبلّغين في أطراف وأكناف الدولة الإسلاميّة، الّذين يبلّغون بإمامتهم ويأخذون من النّاس الطاعة والدّعم لهم؟ في هذه الحالة، إذًا كيف يمكن تفسير هذه العلائم والرّوابط التّنظيميّة الّتي تُشاهد بوضوح والّتي تظهر في العلاقات الماليّة والفكريّة، بين الأئمّة والشّيعة؟ فما معنى حمل هذه الحقوق الشّرعيّة والأموال من مختلف أطراف العالم إلى المدينة؟ وكلّ هذه الأسئلة حول القضايا الدينيّة؟ وهذه الدّعوة الواسعة المنتشرة للتشيّع؟ وأيضًا هذا الشّرف والمحبوبيّة الّتي لا نظير لها، لآل عليٍّ في مناطق مهمّة من الدّولة الإسلاميّة؟ وهذا الجمع الغفير من المحدّثين والرواة الخراسانيين والسيستانيين والكوفيين والبصريين واليمانيين والمصريين الّذين اجتمعوا حول الإمام عليه السلام؟ فأيّة يدٍ مقتدرة أوجدت كلّ هؤلاء؟ فهل يمكن أن نعتبر الصّدفة أو الحدث التلقائيّ عاملًا أساسًا وراء كلّ هذه الظّواهر المنسجمة والمترابطة؟
فمع وجود كلّ هذا الإعلام المخالف، الّذي كان يُبثّ من جانب الأبواق الهائلة لنظام الخلافة الأمويّة إلى مختلف المناطق، ويذكر اسم عليّ بن أبي طالب كأكثر الوجوه الإسلاميّة المدانة، وذلك على المنابر وفي الخُطب، فهل يمكن ومن دون وجود شبكة إعلاميّة قويّة أن يصبح آل عليٍّ بمثل هذه المحبوبيّة والجاذبيّة في تلك المناطق البعيدة والمجهولة، بحيث يطوي أولئك النّاس كلّ هذه المسافات الواسعة ويأتون إلى الحجاز والمدينة لمجرّد اللقاء والاستفادة وعرض المحبّة والعلقة، ويتلقّون معارف الدين، والّتي هي بحسب عقيدة الشّيعة كالسياسة والحكومة، ويطلبون في بعض الموارد، لفقدانهم الصبر، الإقدام على التحرّك العسكري، وبحسب لسان الرّوايات القيام والخروج؟! فلو كان سلاح الشّيعة منحصرًا في إثبات علم الأئمّة وزهدهم فماذا سيكون معنى المطالبة بالثورة العسكريّة؟!
من الممكن أن يُسأل أنّه لو كان هناك مثل هذه الشّبكة الإعلاميّة الوسيعة والفعّالة، فلماذا لا يوجد ذكرٌ لها في التّاريخ، أو لماذا لا يُنقل ما يتعلّق بوقائعها بصراحة؟ والجواب ـ كما أُشير سابقًا ـ وباختصار، هو أنّه يجب البحث أوّلًا عن سبب عدم هذا الظّهور في البداية، في تمسّك أصحاب الإمام عليه السلام الشّديد بأصل التقيّة المُعتبر والراقي، والّذي يمنع نفوذ أيّ دخيل إلى تشكيلات الإمام عليه السلام، ويؤدّي في النهاية إلى فشل جهاد الشّيعة في هذه المرحلة وعدم وصولهم إلى السّلطة والّذي هو أيضاً بذاته معلولاً لعوامل عدّة. لو لم يصل العبّاسيّون إلى السّلطة، لبقيت مساعيهم ونشاطاتهم السرّية وذكرياتهم المرّة والحلوة من نشاطاتهم الإعلاميّة بلا شك في الصدور، ولما عرف أيّ أحدٍ شيئاً عنهم ولما سجّلها التاريخ.
(قيادة الإمام الصادق عليه السلام، ص 74-80)
عندما نتحدّث عن التقيّة من الممكن إن تقولوا أنّ التقيّة ترتبط بذلك الزّمان الّذي كانت فيه الحكومة الجائرة ممسكة بزمام السّلطة ونحن كنّا متخفّين ولا نقول شيئًا بسبب الخوف منها. كلا، في ذلك الوقت لم تكن التقيّة قضيّة خوف. "التقيّة ترس المؤمن" فأين يُستعمل التّرس؟ إنّه يُستخدم في ميدان الحرب وأثناء القتال. إذاً، التقية تكون في مورد المواجهة والقتال، حيث الترس والحرز والخندق والرمح.
وقد كان الأمر هكذا في ذلك الزّمان. عندما كُنّا نستعمل التقيّة لم يكن معنى ذلك أنّنا كُنّا ننزل ضربة السّيف على جسد العدوّ المنحوس، لكنّه كان بطريقةٍ لا يرى فيها ولا يُدرك أنّ هناك سيفًا ويدًا تحمل السيف، أو ترفعه وتضرب به، بل كان يشعر بالألم فقط. هكذا كانت التقيّة. أولئك الّذين كانوا يستعملون التقيّة في تلك الأيّام هكذا كانوا يفعلون، فقد كانوا على سبيل المثال، يعدّون المنشورات بعيدًا عن أعين العدوّ وفي البيوت السرّيّة رغم المراقبة الشديدة، وعندما توزّع كانت تهتك سمعة النّظام. هذا العمل، كان كضربة السيف عندما يُرفع فإنّه ينزل على رأس العدوّ وعاتقه. وبناءً عليه، كنّا نتّقي أي إنّنا لم نكن نسمح للعدوّ أن يُدرك ماذا يجري. فالتقيّة ترسٌ والمتّقي يختبئ خلف الترس. هذا هو معنى التقيّة وهي الآن تُعطي هذا المعنى نفسه.
(29/01/1990)
المصدر: كتاب إنسان بعمر 250 سنة، للامام الخامنئي، الفصل العاشر: الإمام الصادق (ع)