
لقد بايعت جميع الأقطار الإسلاميّة أمير المؤمنين عليه السلام. وحتّى ذلك الوقت، لم يكن قد جرى مثل هذه البيعة العامّة الّتي تمّت لأمير المؤمنين عليه السلام، حيث إنّ جميع الأقطار الإسلاميّة وكلّ الكبراء والصحابة قد بايعوه، باستثناء الشام. فقط عدّة قليلة، أقل من عشرة أشخاص لم يُبايعوا أمير المؤمنين عليه السلام، فأحضرهم إلى المسجد واحدًا واحدًا وسألهم لماذا لم يُبايعوا - وكان من بين هؤلاء عبد الله بن عمر وسعد بن أبي وقّاص ــ فكان أن قدّم كلّ واحدٍ منهم عذرًا، وقال شيئًا. فبعضٌ منهم عاد وبايع، وبعضٌ آخر لم يُبايع مطلقًا ــ عددٌ قليلٌ جدًّا بعدد أصابع اليد الواحدة - فتركهم أمير المؤمنين عليه السلام. ولكن بقية الوجوه المعروفة كطلحة والزبير وغيرهما، جميعًا قد بايعوا أمير المؤمنين، وقبل أن يُبايعوه قال لهم: "واعلموا أنّي إن أجبتكم"، وهو يشير إلى أنّهم لو أصرّوا أن يُمسك هو بالحكومة "ركبت بكم ما أعلم" ، فلا تتصوّروا أنّني سأُراعي تلك الوجوه والشخصيّات والهياكل القديمة والمشهورين والمعروفين، كلا، ولا تتصوّروا أنّني سأتّبع فلانًا وأقلّد فلانًا، أي إنّني سأُديركم بحسب ما أعلم وما أُشخّص وما أعرفه من الإسلام. وهكذا فقد أتمّ أمير المؤمنين عليه السلام الحجّة على النّاس وقَبِل بالخلافة. كان من الممكن لأمير المؤمنين هنا، ولأجل حفظ المصالح ورعاية جوانب القضيّة وأمثالها، أن يتنازل ويجذب إليه القلوب، لكنّه وبكلّ قاطعية أصرّ على الأصول والقيم الإسلاميّة بحيث إنّ كلّ هؤلاء الأعداء قد اصطفّوا في مقابله، وقد واجه أمير المؤمنين عليه السلام معسكرًا مليئًا بالمال والقهر والتزوير، ومعسكرًا آخر فيه الشخصيّات الوجيهة والمعتبرة والمعروفة، ومعسكرًا ثالثًا يضمّ المتظاهرين بالقداسة والتعبّد، لكنّهم جاهلون بحقيقة الإسلام وروحه وتعاليمه ويجهلون شأنيّة أمير المؤمنين عليه السلام ومقامه من أهل التشبّث بالعنف والقسوة وسوء الخلق.
ميزان الحقّ والقيم الإسلاميّة
لقد قاتل أمير المؤمنين عليه السلام ثلاثة معسكرات بثلاثة خطوطٍ منفصلة، هم الناكثون والقاسطون والمارقون. وكلّ واحدة من هذه الوقائع تدلّ على تلك الروح الرفيعة للتوكّل على الله والإيثار والبعد عن الأنانيّة والإنّية، في أمير المؤمنين عليه السلام. واستُشهد في النهاية على هذا الطريق، حتّى قيل بشأنه إنّ عدل عليّ عليه السلام قد قتله. لو لم يكن أمير المؤمنين عليه السلام مريدًا للعدالة، وعمد بدل ذلك إلى رعاية هذا وذاك، وتقديم الشأنية والمقام والشّخصيّة على مصالح العالم الإسلامي لكان أكثر الخلفاء نجاحًا وقدرةً، ولما وجد له معارضًا. لكنّ أمير المؤمنين عليه السلام هو ميزان
الحقّ والباطل. ولهذا كان عليه السلام يتحرّك وفق جوهر التكليف دون أيّ ذرّة من تدخّل الأنا والمشاعر الشّخصيّة والمنافع الذاتيّة، وقد تحرّك على هذا الطريق الّذي اختاره. هكذا كانت شخصيّة أمير المؤمنين عليه السلام. لهذا فإنّ عليًّا عليه السلام هو في الواقع ميزان الحقّ. هكذا كانت حياته عليه السلام، ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ﴾. فلم يكن عظيمًا في الشّهادة فحسب، ولم يكن عند الممات ممّن يفدي نفسه فحسب، بل على مدى حياته كان يُقدّم نفسه دومًا في سبيل الله.
(28/04/1989)
أثبت أمير المؤمنين خلال هذه المدّة أنّ الأصول الإسلاميّة والقيم الإسلاميّة الّتي وُجدت في مرحلة عزلة الإسلام وفي مرحلة صغر المجتمع الإسلاميّ، قابلةٌ للتّطبيق مثلما أنّها كذلك في مرحلة الرّفاهية والتّوسّع والاقتدار والتقدّم والازدهار الاقتصاديّ للمجتمع الإسلاميّ. فمن المهم جدًّا أن نلتفت إلى هذه النقطة. لقد نزل الوحي الإلهيّ بالأصول الإسلاميّة، والعدالة الإسلاميّة، وتكريم الإنسان، وروح الجهاد، والبناء الإسلاميّ، والمرتكزات الأخلاقيّة والقيمية الإسلاميّة، فـي زمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وقد تمّ تطبيقها من قِبَل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فـي المجتمع الإسلاميّ ضمن الحدود المتاحة. ولكن كيف كان المجتمع الإسلاميّ فـي عهد الرّسول؟ تأسّست القيم الإسلاميّة فـي بيئة صغيرة وضئيلة، إذ حتى عشر سنوات لم يكن سوى المدينة، وكانت مدينة صغيرة تضمّ بضعة آلاف من النّاس، ثمّ فُتحت مكّة والطائف، وهي منطقة محدودة بثروات قليلة جدًّا، فالفقر كان شاملًا، والإمكانات الّتي كانت فـي متناول أيديهم كانت ضئيلة جدًّا..
مضت خمس وعشرون سنة على رحيل الرّسول عن الدّنيا. وكانت مساحة الدّولة الإسلاميّة قد ازدادت، خلال هذه المدّة، مئات الأضعاف، لا ضعفين أو ثلاثة أو عشرة. فيوم تسلّم أمير المؤمنين عليه السلام الحكم كانت الأرض التي تمتدّ من آسيا الوسطى حتّى شمال أفريقيا ــ أي مصر ـ داخلةً ضمن نطاق الدولة الإسلاميّة. ففي بداية الأمر، تلاشت إحدى الدولتين العظميين المجاورتين للدّولة الإسلاميّة - وأعنـي بهما إيران والرّوم ـ فقد تلاشت إحداهما نهائيًّا وهي الدّولة الإيرانيّة، وصارت كافّة الأراضي الإيرانية بيد الإسلام. ودخلت أجزاء مهمّة من الأراضي الرّومانيّة ـ بلاد الشام وفلسطين والموصل ومناطق أخرى ـ أيضًا فـي دائرة الإسلام. مثل هذه الرقعة الواسعة كانت بيد الإسلام يومذاك. إذًا، لقد توفّرت ثروات طائلة ولم يعد هناك فقرٌ أو عوزٌ أو شحٌّ في الطّعام، وأصبح الذهب كثيرًا، والأموال وفيرة، وأصبح هناك ثروات طائلة. لذا، كانت الدّولة الإسلاميّة قد أصبحت ثريّة. الكثيرون تمتّعوا برفاه جاوز الحدود. لو لم يكن الإمام عليّ عليه السلام في البين، ربّما كان التاريخ ليحكم بأنّ المبادئ الإسلاميّة والقيم النبويّة كانت جيّدة لعصر المدينة النبويّة فقط، أي لذلك العهد الّذي تميّز بضآلة حجم المجتمع الإسلاميّ وفقره. أمّا بعد أن اتّسع المجتمع الإسلاميّ واختلط بالحضارات المختلفة حيث وفدت من إيران والرّوم ثقافات وحضارات شتّى إلى حياة النّاس، وانضوت شعوب مختلفة تحت مظلّة المجتمع الإسلامي، فلا تبقى تلك المبادئ كافية ولا قادرة على إدارة البلد. وقد أثبت أمير المؤمنين عليه السلام، طوال هذه السنوات الخمس، بممارساته وسيرته وأسلوبه فـي الحكم أنّ الأمر
على العكس من ذلك، فتلك المبادئ نفسها الّتي كانت متألّقة في صدر النبوّة ـ ذات التوحيد، والعدل، والإنصاف والمساواة بين النّاس - هي ممكنة التطبيق على يد خليفة قويّ كأمير المؤمنين عليه السلام. هذا شيء خلّده التاريخ. ومع أنّ هذا المنهج لم يستمرّ بعد أمير المؤمنين عليه السلام، لكنّه أثبت أنّ الحاكم الإسلاميّ ومديري المجتمع والمسؤولين المسلمين إذا قرّروا وعزموا وكانوا أصحاب عقيدة راسخة لأمكنهم تطبيق نفس تلك المبادئ فـي عهد اتّساع رقعة الدّولة الإسلاميّة وظهور ظروف جديدة ومتنوِّعة للحياة، حتّى ينتفع بها النّاس... فمن الواضح أنّ إقامة العدالة الاجتماعيّة فـي مجتمع يضمّ عشراً أو خمس عشرة ألف نسمة فـي المدينة تختلف اختلافًا هائلًا عنها فـي مجتمع يضمّ عشرات الملايين أو مئات الملايين كما كان الحال في عهد أمير المؤمنين عليه السلام. وقد نهض أمير المؤمنين عليه السلام بهذه المهام.
المصدر: كتاب إنسان بعمر 250 سنة، للامام الخامنئي، الفصل الثالث: الإمام علي (ع)