الناسخ والمنسوخ (1)

1- معنى النسْخ:
أ- المعنى اللغوي: "النون والسين والخاء: أصل واحد, إلا أنّه مُختَلف في قياسه. قال قوم: قياسه رفع شيء وإثبات غيره مكانه. وقال آخرون: قياسه تحويل شيء إلى شيء. قالوا: النسخ نسخ الكتاب. والنسخ: أمر كان يُعمَل به مِن قبل، ثمّ يُنسَخ بحادث غيره, كالآية ينزل فيها أمر، ثمّ تنسخ بآية أخرى. وكلّ شيء خلف شيئاً, فقد انتسخه" . و"النَّسْخُ: إزالةُ شَيْءٍ بِشَيْءٍ يَتَعَقَّبُه، فَتَارَةً يُفْهَمُ منه الإزالة، وتَارَةً يُفْهَمُ منه الإثباتُ، وتَارَةً يُفْهَم منه الأَمْرَانِ" . وعليه، فإنّ المعنى الحقيقي للنسخ هو الإزالة، وقد استُخدم مجازاً بمعنى النقل والتحويل, لما فيهما من معنى الإزالة.

ب- المعنى الاصطلاحي: النسخ هو: رفع تشريع  سابق ـ كان يقتضي الدوام حسب ظاهره ـ بتشريعٍ لاحِق, سواء أكان ذلك الأمر المرتفع من الأحكام التكليفية أم الوضعية، وسواء أكان من المناصب الإلهية أم من غيرها من الأمور التي ترجع
 
إلى الله تعالى بما أنّه شارع، بحيث لا يمكن اجتماع التشريعين معاً، إمّا ذاتاً, إذا كان التنافي بينهما بيّناً، وإمّا بدليل خاصّ, من إجماعٍ، أو نصٍّ صريح .

 

2- إمكان النسخ ووقوعه:
تسالم العقلاء في ما بينهم على إمكان وقوع النسخ في التقنين, بإزالة حكم أو قانون واستبداله بآخر، في ما لو كان الحكم أو القانون الثاني الناسخ مشتملاً على مصلحة لا يشتمل عليها الحكم أو القانون الأوّل المنسوخ، أو في ما لو تبيّن للمقنّن أنّ الحكم أو القانون الأوّل لم يكن مشتملاً على المصلحة المطلوبة, ما دعاه إلى تقنينٍ آخر يستوفي تلك المصلحة.

وخالف في ذلك اليهود والنصارى في مجال الشرعيّات والتكوينيّات, لوجود شبهة لديهم في المسألة, حيث ادّعوا استحالة وقوع النسخ, لاستلزامه عدم حكمة الناسخ، أو جهله بوجه الحكمة، وكلا هذين اللازمين مستحيل في حقّه تعالى. وحقيقة الأمر في دحض هذه الشبهة:

أ- أنّ الحكم المجعول من قِبَل الشارع الحكيم قد لا يُراد منه البعث، أو الزجر الحقيقيين, كالأوامر التي يقصد بها الامتحان، وهذا النوع من الأحكام يمكن إثباته أولاً، ثمّ رفعه، ولا مانع من ذلك, فإنّ كلاً من الإثبات والرفع في وقته قد نشأ عن مصلحة وحكمة، فلا يلزم منه خلاف الحكمة.

ب- قد يكون الحكم المجعول حكماً حقيقياً، ومع ذلك يُنسَخ بعد زمان، لا بمعنى أنّ الحكم بعد ثبوته يُرفع في الواقع 
ونفس الأمر, كي يكون مستحيلاً على الحكيم العالم بالواقعيّات، بل هو بمعنى: أن يكون الحكم المجعول مقيّداً بزمان 
خاصّ معلوم عند الشارع منذ البداية، مجهول عند الناس, لمصلحة مرعية عند الشارع، ويكون ارتفاعه بعد انتهاء ذلك الزمان, لانتهاء أمده الذي قُيِّدَ به واقعاً. والنسخ 
 
بهذا المعنى ممكن قطعاً, لبداهة دخالة خصوصيّات الزمان في مناطات الأحكام بما لا يشكّ فيه أيّ عاقل. فالنسخ في الحقيقة تقييد لإطلاق الحكم من حيث الزمان، ولا تلزم منه مخالفة الحكمة، ولا البداء بالمعنى المستحيل في حقّه تعالى.

ولا خلاف بين المسلمين في وقوع النسخ بين الشرائع السابقة واللاحقة, كنسخ الشريعة الإسلاميّة للشرائع السماوية السابقة عليها زماناً، وداخل الشريعة الواحدة نفسها, كتحويل القبلة.

وقد صرّح القرآن الكريم في آيات عدّة بوقوع النسخ، منها:
- قوله تعالى: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ .
- قوله تعالى: ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ .
- قوله تعالى: ﴿يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ .

وعليه، فإنّ النسخ ممكن الوقوع، وقد وقع فعلاً، ولكنّه نسخ بالمعنى المجازي لا بالمعنى الحقيقي للنسخ - أي بمعنى نشأة رأي جديد -، فهو حكم مؤقّت وتشريع محدود واضح أمره للمشرّع منذ بداية تشريعه، ولكن لمصلحة في التكليف أخفى الشارع المقدّس بيان أمد الحكم عن الناس، ومع انتهاء أمده شرَّع حكماً آخر مكانه. ولعلّ وجه الحكمة من هذا الإخفاء، يكمن في حثّ المكلّفين على الانبعاث لامتثال الحكم, كما لو أنّه حكماً مطلق الأمد .
 


3- ضرورة معرفة الناسخ والمنسوخ:
إنّ لمعرفة الناسخ والمنسوخ أثر جلي في فهْم التشريع الإسلامي، بحيث لا يمكن للمجتهد استنباط حكم شرعيّ ما لم يكن له حظّ وافر من معرفة الناسخ والمنسوخ.

وقد شدّد الروايات المأثورة عن أهل بيت العصمة عليهم السلام على ضرورة معرفة الناسخ والمنسوخ، منها:
أ- روي أنّ الإمام علي عليه السلام مرّ على قاضٍ، فقال له عليه السلام: هل تعرف الناسخ عن المنسوخ؟ فقال: لا، فقال عليه السلام: "هلكتَ وأهلكتَ، تأويل كلّ حرف من القرآن على وجوه" .

ب- روي أنّ الإمام الصادق عليه السلام قال لأبي حنيفة: "أنت فقيه أهل العراق؟" قال: نعم، قال عليه السلام: "فبِمَ تُفتيهم؟" قال: بكتاب الله وسنّة نبيّه، فقال له الإمام عليه السلام: "أتعرف كتاب الله حقّ معرفته، وتعرف الناسخ من المنسوخ؟" قال: نعم، قال عليه السلام: "لقد ادّعيت عِلماً. ويلك! ما جعل الله ذلك إلا عند أهل الكتاب الذين أُنزِلَ عليهم. ويلك! ولا هو إلا عند الخاصّ من ذرّيّة نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم" .

 

4- الفرق بين النسخ والتخصيص:
يكمن الفرق بين النسخ والتخصيص في النقاط التالية:
أ- مقتضى النسخ انتهاء التشريع السابق، بعد أن عَمِل به المكلّفون لفترة من الزمن، بينما مقتضى التخصيص قصر الحكم العامّ على بعض أفراد الموضوع دون تمامها، وإخراج بقيّة الأفراد عن دائرة شمول الحكم, وذلك قبل أن يعمَل المكلّفون بعموم التكليف. فالنسخ هو نوع اختصاص للحكم ببعض الأزمان، والتخصيص
 
نوع اختصاص له ببعض الأفراد.

ب- الرافع للتنافي بين الناسخ والمنسوخ بعد استقراره بينهما، بحسب الظهور اللفظي, هو الحكمة والمصلحة الموجودة بينهما، بخلاف الرافع للتنافي بين العامّ والخاصّ, فإنه قوّة الظهور اللفظي الموجود في الخاصّ، المفسّر للعامّ بالتخصيص.

ويُعدّ كل ّ من الناسخ والمخصِّص وسيلة للكشف عن المراد الحقيقي للمشرّع .

 

5- شروط النسخ:
ذُكِرَت شروط عدّة للنسخ الاصطلاحي ، أهمّها:
أ- وجود تنافي ذاتي بين الحكمين، بحيث لا يمكن اجتماعهما معاً في الوقت نفسه, كما في آيات وجوب الصفح مع وجوب آيات القتال، أو وجود تنافي بينهما ناتج عن دليل قطعي دلّ على نقض الحكم السابق بحكم لاحق, كما في حكم الاعتداد المبيّن في آية الإمتاع إلى الحول: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ ، مع حكم الاعتداد المبيّن في آية الاعتداد بأربعة أشهر وعشرة أيام: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ .
 
ب- أن يكون التنافي كلّيّاً على الإطلاق، لا جزئيّاً وفي بعض الجوانب, فإنّ الثاني تخصيص في الحكم العامّ، وليس من النسخ في شيء, فآية القواعد من النساء: ﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾  لا تصلح ناسخة لآية غضّ البصر:﴿وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ ، بعد أن كانت الأولى أخصّ من الثانية، والخاصّ لا ينسخ العامّ، بل يخصِّصه بما عداه من أفراد الموضوع.

ج- عدم تحديد أمد الحكم السابق, تصريحاً أو تلويحاً، حيث يرتفع الحكم بنفسه عند انتهاء أمده، من دون حاجة إلى نسخ, فقوله تعالى: ﴿...فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ...﴾  لا يصدق عليه النسخ عندما تفيء الفئة الباغية وترجع إلى رشدها والتسليم لحكم الله.
 
د- تعلّق النسخ بالتشريعيّات ، فلا نسخ في ما يتعلّق بالأخبار. فقوله تعالى: ﴿ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ﴾  لا يصلح ناسخاً لقوله: ﴿ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ﴾ .

هـ- وحدة الموضوع في الحكمين, لأنّ تغيّر الموضوع يستلزم تغيّر الحكم, فلا نسخ مع تغيّر الموضوع.

و- اشتمال الناسخ على ما في المنسوخ من كمال ومصلحة.
 


الأفكار الرئيسة


1- النسخ هو رفع تشريع سابق بتشريعٍ لاحِق، بحيث لا يمكن اجتماعهما معاً.
2- تسالم العقلاء والمسلمون على إمكان وقوع النسخ، وخالف اليهود والنصارى.
3- نسخ الشارع المقدّس هو نسخ بالمعنى المجازي لا بالمعنى الحقيقي للنسخ.
4- إنّ لمعرفة الناسخ والمنسوخ أثر جلي في فهْم التشريع الإسلامي.
5- النسخ هو نوع اختصاص للحكم ببعض الأزمان، والتخصيص نوع اختصاص له ببعض الأفراد.
6- من شروط النسخ: وجود تنافي ذاتي كلّي بين الحكمين، عدم تحديد أمد الحكم السابق، وحدة الموضوع، اشتمال الناسخ على ما في المنسوخ من كمال ومصلحة.

 


مطالعة

الفرق بين النسخ والبَدَاء 
إنّ النسخ في معناه الواقعي والحقيقي (تبدّل الرأي) في مجال التكوين (وهو ما يسمّى بالبَدَاء) مستحيل بحقّه تعالى - كما هو حال النسخ في مجال التشريع - وممتنع بالقياس إلى علمه تعالى الأزلي المحيط بالأشياء. فكما أنّ النسخ في الشرعيّات, بمعنى ظهور شيء بعد خفاء على الناس، فكذلك البَدَاء في التكوينيات, بمعنى ظهور أمر بعد خفاء، سوى أنّ الأوّل: ظهور أمد حكم كان معلوماً عند الله خافياً على الناس، والثاني: ظهور أمر وأجَل كان محتّماً عنده تعالى من الأزل، وخافياً على الناس، ثمّ بدا لهم, أي ظهرت لهم حقيقته.

قال تعالى: ﴿يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ . ومفاد هذه الآية أنّ لله سبحانه في كلّ وقت وأجل كتاباً, أي حكماً وقضاءً، وأنّه يمحو ما يشاء من هذه الكتب والأحكام والأقضية، ويثبت ما يشاء, أي يغيّر القضاء الثابت في وقت, فيضع في الوقت الثاني مكانه قضاءً آخر، لكن يوجد عنده بالنسبة إلى كلّ وقت قضاء لا يتغيّر ولا يقبل المحو والإثبات, وهو الأصل الذي ترجع إليه الأقضية الأخرى وتنشأ منه, فيمحو ويثبت على حسب ما يقتضيه هو.

 


المصادر والمراجع


1- القرآن الكريم.
2- ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، ج5، ص424.
3- الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، ص801.
4- الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج1، ص249-253, ج11، ص375-382, ج12، ص345-346.
5- الخوئي، البيان في تفسير القرآن، ص277-280.
6- العياشي، تفسير العياشي، ج1، في تفسير الناسخ والمنسوخ...، ح9، ص12.
7- الصدوق، علل الشرائع، ج1، باب81، ح5، ص89-90.
8- الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن، ج2، ص141-143، 145-146.
9- معرفة، التمهيد في علوم القرآن، ج2، ص269-274.
 

2020-11-23 | 872 قراءة