
لقد تمّ استشراف المخاطر الّتي تُهدّد الإسلام كظاهرةٍ عزيزة، قبل ظهور الإسلام أو في بداية ظهوره، من جانب الرّب المتعال. وقد تمّت ملاحظة وسيلة مواجهة تلك الأخطار، وأودعت في نفس الإسلام وفي نفس هذه المجموعة، فهما مثل بدنٍ سالمٍ جهّزه الله تعالى بالقدرات الدّفاعيّة، وكآلةٍ سالمةٍ يحمل مهندسها وصانعها أدوات إصلاحها معها. فالإسلام ظاهرةٌ، ومثل جميع الظواهر، يُهدَّد بأخطار ويحتاج إلى وسائل للمواجهة. وقد جعل الله هذه الوسيلة في الإسلام نفسه. ولكن ما هو هذا الخطر؟
هناك خطران أساسان يُهدّدان الإسلام، أحدهما خطر العدوّ الخارجيّ، والآخر هو الاضمحلال الداخليّ.
01- العدوّ الخارجيّ هو الّذي يكون من خارج الحدود، ويقوم باستهداف وجود نظامٍ ما في فكره وجهاز بنيته التحتية العقائديّة وقوانينه وكلّ شؤونه وبشتّى أنواع الأسلحة. فما المقصود من الخارج؟ ليس المقصود من خارج البلد، بل من خارج النّظام وإن كان داخل البلد. هناك أعداءٌ يعدّون أنفسهم غرباء عن النّظام ويُعارضونه. فهؤلاء هم من الخارج وغرباء وأجانب. فهؤلاء يتوسّلون بالسّلاح والسّلاح الناريّ وبأحدث الأسلحة الماديّة وبالإعلام والمال وبكلّ ما هو في متناول أيديهم من أجل القضاء على النّظام وإزالته من الوجود. هذا نوعٌ من الأعداء.
02- العدوّ، والتّهديد الثّاني هو تهديد الترهّل الداخليّ، أي داخل النّظام، الذي لا يكون من الغرباء بل منه وفيه. فمن الممكن للمنتمين للنّظام، على أثر التّعب أو الخطأ في فهم الطّريق الصّحيح، أو على أثر تغلّب المشاعر النفسانيّة، أو على أثر النّظر إلى المظاهر المادّية وتعظيمها، أن يُصابوا فجأةً بهذا التّهديد من الدّاخل. وبالطّبع، إنّ خطر(هذا العدوّ) أكبر من خطر الأوّل.
هذان النّوعان من الأعداء ـ التهديد الخارجيّ والتهديد الداخليّ ـ موجودان لدى أيّ نظام أو تنظيم أو ظاهرة. وقد عيّن الإسلام علاجًا لمواجهة كلٍّ من هذين التّهديدين، ووضع الجهاد. فالجهاد لا يختصّ بالأعداء الخارجيين، ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾ ، فالمنافق هو من داخل النّظام. لذلك يجب مجاهدة كلّ هؤلاء. الجهاد هو في مقابل العدوّ الّذي يُريد أن يُهاجم هذا النّظام انطلاقًا من رفضه العقائديّ وعدائه له. وكذلك ومن أجل مواجهة ذلك التفكّك الداخليّ، توجد تعاليم أخلاقية مهمّة جدًّا تُفهم الإنسان حقيقة هذه الدنيا، ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ﴾ أي إنّ هذه الزّخارف وهذه المظاهر وهذه اللذائذ الدنيويّة، وإن كانت ضروريّة لكم، وإن كنتم مضطرّين لأن تستفيدوا منها وإن كانت حياتكم مرتبطة بها، فلا شكّ في ذلك، ويجب أن تؤمّنوها بأنفسكم، ولكن اعلموا أنّ إطلاقها والتحرّك نحوها بعينٍ مغمضة ونسيان الأهداف هو أمرٌ خطرٌ جدًّا.
أمير المؤمنين عليه السلام هو أسد ميدان مواجهة العدوّ، وعندما يتحدّث فإنّ المرء يتوقّع أن يكون نصف خطبه أو أكثرها راجعًا إلى الجهاد، والحرب، والبطولات. لكن عندما ننظر في روايات وخطب نهج البلاغة نجد أنّ أغلب خطبه ووصاياه راجعة إلى الزّهد والتّقوى والأخلاق ورفض الدّنيا وتحقيرها، وتعظيم القيم المعنويّة والإنسانيّة الرّفيعة.
لقد كانت واقعة الإمام الحسين عليه السلام إدغاماً لهذين القسمين، أي إنّ الجهاد مع العدوّ والجهاد مع النّفس قد تجلّى في أعلى مراتبه هناك، في واقعة عاشوراء. أي إنّ الله تعالى يعلم أنّ هذه الحادثة ستقع ويجب أن تُظهر المثل الأعلى ليكون قدوةً، مثلما يحدث في البلاد مع الأبطال عندما يبرزون في مجالٍ ما، ويكون البطل محفّزًا لغيره في ذلك المجال من الرّياضة. بالطّبع، هذا مثالٌ صغيرٌ من أجل تقريب (الصّورة) إلى الذّهن. إنّ واقعة عاشوراء عبارة عن حركةٍ عظيمة مجاهدة في كلا الجبهتين. سواء في جبهة المواجهة مع العدوّ الخارجيّ، الّذي كان عبارة عن جهاز الخلافة الفاسد نفسه، وطلّاب الدّنيا المرتبطين بجهاز السّلطة هذا، والّذين أرادوا تلك القوّة الّتي كان النبيّ قد استخدمها من أجل نجاة البشر، من أجل تلك الحركة المقابلة لمسيرة الإسلام ونبيّه المكرّم صلى الله عليه وآله وسلم، أم في الجبهة الدّاخليّة حيث كان المجتمع في ذلك الوقت قد تحرّك بشكلٍ عامّ نحو ذلك الفساد الداخليّ.
النّقطة الثّانية وهي الأهمّ بنظري، وهي أنّه كان قد مرّ مقطعٌ من الزّمن، وكان قد طُوي عهد المصاعب الأساس للعمل. فالفتوحات قد تحقّقت، وقد تمّ الحصول على الغنائم، ونطاق الدّولة قد اتّسع، وقد تمّ قمع الأعداء الخارجيّين من هنا وهناك، وتدفّقت الغنائم الوفيرة إلى داخل الدّولة، وأضحى البعض من أصحاب الرّساميل، وانتمى البعض لطبقة الأشراف. فبعد أن كان الإسلام قد اقتلع هذه الطّبقة وقمعها، عادت وتشكّلت طبقة جديدة من الأشراف في العالم الإسلاميّ. هناك أفرادٌ، باسم الإسلام وبسمات وعناوين إسلامية ــ ابن الصحابيّ الفلاني وابن التّابع الفلانيّ، وابن المقرّب للنبيّ الفلانيّ ــ دخلوا في أعمال غير لائقة وغير مناسبة، وقد سجّل التّاريخ أسماء بعض هؤلاء، وكانوا يجعلون مهر بناتهم مليون مثقال من الذهب الخالص أي مليون دينار، بدل أن يكون مهر السنّة، الّذي جعله النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام ومسلمو الصّدر الأوّل من الإسلام، وهو 480 درهمًا. فمن هم هؤلاء؟ هم أولاد صحابة أجلّاء كمصعب بن الزبير وغيره.
(26/01/1993)
لقد بدأت الأحداث قبل مرور أقلّ من عقدٍ من الزّمان على رحيل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. في البداية، تمتّع أصحاب السّوابق (الأمجاد) في الإسلام - بمن فيهم من صحابة وتابعين وأشخاص قد شاركوا في حروب النبيّ - بالامتيازات. وقد كان الحصول على عطاءات ماليّة إضافيّة من بيت المال أحد هذه الامتيازات. وأضحى هناك عنوان يجعل مساواتهم مع الآخرين غير صحيح وغير ممكن أيضًا! كانت هذه هي اللبنة الأولى. إنّ التحرّكات الّتي تنجرّ إلى الانحراف تبدأ من هذه النّقطة الصّغيرة، ومع كلّ خطوة تزداد سرعتها. لقد بدأت الانحرافات من هذه النقطة حتّى وصلت إلى أواسط عهد عثمان، حيث وصل الوضع في عهد الخليفة الثّالث إلى حدٍّ أنّ كبار صحابة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد أضحوا من أكبر الرأسماليّين في زمانهم! إنّهم من الصّحابة، أصحاب الشّأن الرّفيع والمعروفين ــ كطلحة والزبير وسعد بن أبي وقّاص وغيرهم ــ هؤلاء الكبار والوجهاء الّذين كان لكلّ واحدٍ منهم سجلّ ضخم من المفاخر السّابقة في بدرٍ وحنين وأُحد، صاروا من الرأسماليّين الكبار في الإسلام. عندما توفّي أحدهم وترك الجواهر والذّهب وأرادوا تقسيمها بين ورثته، جاؤوا في البداية بسبائكها وقطعها وأرادوا أن يُقسّموها ويُقطّعوها بالفؤوس وكأنّها قطعات حطب تحتاج إلى فأس ليقطعها، فالذهب عادةً يتم حسابه وقياسه بالمثاقيل، فانظروا كم كان يمتلك من الذهب حتّى احتاجوا إلى الفأس لتقسيمه. لقد ذُكرت هذه الأمور في التاريخ، وليست من القضايا الّتي ذكرها الشّيعة في كتبهم، إنّها حقائق، كان يسعى الجميع لضبطها وتسجيلها. لقد تركوا من الدّراهم والدنانير ما يبلغ حدّ الأساطير.
(09/06/1996)
عندما نقول فساد الجهاز من الدّاخل، فمعناه أنّه يظهر أفرادٌ في المجتمع ويبدؤون بالتّدريج بنقل أمراضهم الأخلاقيّة المعدية ـ حبّ الدّنيا والشّهوات ـ والّتي هي للأسف أمراضٌ مهلكة إلى باقي أفراد المجتمع. في مثل هذه الحالة، هل سيكون هناك من يجرؤ أو يمتلك الهمّة للمضيّ قدمًا في مخالفة جهاز يزيد بن معاوية؟! هل سيحدث مثل هذا الأمر حينها؟ فمن هو الّذي كان يُفكّر بمواجهة جهاز الظّلم والفساد ليزيد في ذلك الزّمان؟ على مثل هذه الأرضيّة، قامت النّهضة الحسينيّة العظيمة الّتي كانت تُجاهد العدوّ، كما كانت تواجه روحيّة طلب الرّاحة المهلكة المنتشرة بين المسلمين العاديين وعامّتهم. وهذا أمرٌ مهمٌّ.
(26/01/1993)
المصدر: كتاب إنسان بعمر 250 سنة، للامام الخامنئي، الفصل السادس: الإمام الحسين (ع)