
عندما جرت واقعة كربلاء سيطرت على كافّة العالم الإسلاميّ، وخاصّة عندما وصل الخبر إلى الحجاز والعراق، حالةٌ من الرعب والخوف الشّديدين بين الشّيعة وأتباع الأئمّة، لأنّهم شعروا أنّ حكومة يزيد لا تتوّرع عن ارتكاب أيّ شيء لإحكام قبضتها على كلّ شيء، حتّى ولو كان قتل الحسين بن علي عليه السلام، سبط الرّسول المعروف بالعظمة والاعتبار والقداسة في كافّة أنحاء العالم الإسلاميّ. هذا الرعب الّذي ظهرت آثاره في الكوفة والمدينة بلغ ذروته بعد مرور زمان معيّن، إثر وقوع عدّة حوادث أخرى - إحداها حادثة الحرّة - فسيطر جوّ القمع الشّديد في منطقة نفوذ أهل البيت عليهم السلام في الحجاز (وخاصّة المدينة) وفي العراق (وخاصّة الكوفة). فضعفت الاتّصالات وصار أتباع الأئمّة والمعارضون لنظام بني أميّة أقليّة وفي حالة ضعف وعدم ثبات.
وتُنقل رواية عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال في الحديث عن أوضاع الأئمّة الّذين سبقوه: "ارتدّ النّاس بعد الحسين عليه السلام إلّا ثلاثة..." وذُكر في روايةٍ أخرى أنّهم خمسة وفي بعضها أنّهم سبعة. وفي رواية عن الإمام السجّاد عليه السلام - يرويها أبو عمر النهديّ - يقول سمعت عن الإمام أنّه قال: "ما بمكّة والمدينة عشرون رجلًا يُحبّنا" .
وقد نقلت هذين الحديثين في هذا المجال، حتّى يتّضح الوضع العامّ لعالم الإسلام بالنسبة للأئمّة وأتباعهم. فهذا القمع الّذي حدث أوجد مثل تلك الحالة الّتي صار فيها أتباع الأئمّة عليهم السلام متفرّقين آيسين خائفين لا يملكون القدرة على التحرّك الجماعيّ. ولكن في تلك الرّواية يُكمل الإمام الصادق عليه السلام القول: "ثمّ إنّ النّاس لحقوا وكثروا" .
وتفصيل القضيّة المذكورة هو: بعد واقعة شهادة الإمام الحسين عليه السلام صار النّاس في خوفٍ ورعب لكن ليس إلى درجة زوال تشكيلات أتباع أهل البيت. ودليل ذلك أنّه في الوقت الّذي جاؤوا بأسرى كربلاء إلى الكوفة، شوهدت التحرّكات الّتي تدلّ على وجود التنظيمات الشيعيّة.
وعند الحديث عن "التنظيمات الشيعيّة السريّة" لا نقصد نمط التنظيمات الموجود في هذا العصر، بل المقصود تلك الرّوابط العقائديّة الّتي كانت تصل النّاس بعضهم ببعض وتحملهم على التّضحية والأعمال السرّية، والّتي تؤلّف في أذهاننا مجموعة واحدة.
في تلك الأيّام الّتي كان فيها أهل البيت عليهم السلام في الكوفة، يسقط في إحدى الليالي حجرٌ في السجن الّذي كانوا فيه، وإذ بالحجر ورقة كُتب عليها: "لقد أرسل حاكم الكوفة رجلًا إلى يزيد في الشّام حتّى يعلم ماذا يفعل بكم. فإذا سمعتم غدًا ليلًا صوت تكبير فاعلموا أنّكم ستُقتلون ها هنا، وإذا لم تسمعوا فاعلموا أنّ الوضع سيتحسّن" . عندما نسمع بمثل هذه القصّة نُدرك جيّدًا وجود شخص من الأصدقاء وأعضاء هذه التّنظيمات داخل الجهاز الحاكم لابن زياد، يعلم القضايا وتطال يده السّجن ويعلم ما هي الإجراءات بحقّ المعتقلين وما سيجري عليهم، ويُمكنه بالتّكبير أن يوصل الأخبار، وبالرغم من كلّ القمع والتّشديد كانت تُشاهد مثل هذه الأمور.
مثال آخر: عبد الله بن عفيف الأزديّ، الرّجل الأعمى الّذي قام بردّة الفعل الأولى عند ورود الأسرى إلى الكوفة، وأدّى ذلك إلى استشهاده. وكذلك ما رأيناه في الشّام أو في الكوفة عندما التقى النّاس بأهل البيت بالبكاء والتلاوم وقد تكرّرت هذه الحوادث في مجلس يزيد وفي مجلس ابن زياد أيضًا.
بناءً على هذا، ومع فرض جوّ من القمع الشّديد بعد هذه الحادثة، لم ينهدم نظام عمل أتباع أهل البيت عليهم السلام ولم يحصل لهم التشتّت والضّياع. ولكن بعد مرور مدّة وقعت حوادث أخرى، ازداد معها جوّ القمع. ومن هنا يُمكن فهم الحديث "ارتدّ النّاس بعد الحسين" بأنّه يرتبط بمرحلة تلك الأحداث أو ما بعدها، أو مرتبطٌ بالمقاطع الزمنيّة الّتي حصلت في هذا المجال.
وخلال هذه المرحلة - قبل وقوع تلك الحادثة المهمّة والمفجعة - قام الشّيعة بترتيب وتنظيم أعمالهم واستعادة انسجامهم السّابق. وينقل الطبريّ قائلًا: "فلم يزل القوم في جمع آلة الحرب والاستعداد للقتال" ، وهو يقصد الشّيعة في طلب الثّأر لدماء الحسين بن علي عليه السلام. وكانوا يدعون النّاس من الشّيعة وغيرهم ويستجيب لهم النّاس جماعات، جماعات، وقد استمرّ هذا الوضع إلى أن هلك يزيد بن معاوية.
ولهذا نجد مع كلّ هذا الضّغط والقمع الشّديد استمرار التحرّكات - كما ينقل الطبريّ - ولعلّه لهذا السّبب تقول مؤلّفة كتاب "جهاد الشّيعة" (وهي كاتبة غير شيعيّة ولا تمتلك رؤية واقعيّة تجاه الإمام السجاد عليه السلام ولكنّها أدركت هذه الحقيقة): "أصبح الشّيعة بعد شهادة الحسين عليه السلام كتنظيمٍ واحدٍ تجمعهم الاعتقادات والروابط السّياسيّة ويعقدون الاجتماعات ولهم القادة والقوى العسكريّة. وكان التوّابون أوّل مظهر لهذه التنظيمات" .
وهكذا شعرنا مع تسلّل الضّعف إلى التّنظيمات الشّيعيّة إثر حادثة عاشوراء أنّ هذه التحرّكات في مقابل هذا الوضع استمرّت بنشاطٍ لإعادة هذا التنظيم إلى سابق عهده، إلى أن جرت "واقعة الحرّة". وبرأيي فإنّ واقعة الحرّة كانت مفصلًا عظيمًا في تاريخ التشيّع وضربة كبيرة جدًّا له.
واقعة الحرّة
لقد جرت هذه الواقعة سنة 63 للهجرة. وتفصيلها باختصار، أنّه في سنة 62 هـ وُلّيَ أحد شباب بني أميّة قليلي الخبرة، على المدينة ففكّر ومن أجل استمالة قلوب الشّيعة في المدينة، أن يدعو بعضهم إلى ملاقاة يزيد. فدعا بعض أشراف المسلمين والصحابة ووجهاء المدينة - الّذين كانوا في معظمهم من محبّي الإمام السجّاد عليه السلام - إلى الشام للقاء يزيد والاستئناس به وللحدّ من الخلافات. فذهبوا إلى الشام والتقوا به ومكثوا عدّة أيّام، وأعطاهم يزيد مبالغ كبيرة من المال (بمقدار 50 ألف درهم أو مئة ألف) ثمّ رجعوا إلى المدينة.
عندما عادوا إلى المدينة ـ ولأنّهم رأوا الفجائع في بلاط يزيد ـ بدؤوا بانتقاده والتهجّم عليه. وانقلبت القضيّة، فبدلاً من مدحه والثّناء عليه بدؤوا بالتّشهير به وقالوا للنّاس: كيف يمكن أن يكون يزيد خليفة وهو شاربٌ للخمر، ويُلاعب الكلاب والقردة، ويُمارس أنواع الفسق والفجور؟ إنّنا نخلعه عن الخلافة. وكان على رأس هؤلاء، عبد الله بن حنظلة الّذي دعا النّاس إلى القيام على يزيد وخلعه.
فأدّت هذه الحركة إلى أن يأمر يزيد أحد القادة الكهول والمخضرمين لبني أميّة، ويُدعى "مسلم بن عقبة"، بالإسراع إلى المدينة وإخماد الثّورة فيها. فقدم ابن عقبة وحاصرها عدّة أيّام ثمّ دخلها وارتكب فيها أبشع وأفجع الجرائم الّتي لم يحدث مثلها في تاريخ الإسلام. وقد عُرف بعد هذه الحادثة المفجعة باسم "مسرف بن عقبة".
إنّ مجريات وتفاصيل هذه الحادثة كثيرة ولا يمكن أن أشرح كلّ الأحداث فيها، ولكن يكفي أنّها أصبحت أكبر وسيلة لإرعاب محبّي وأتباع أهل البيت، خاصّة في المدينة الّتي هرب منها من هرب وقُتل آخرون، بعضهم من أصحاب أهل البيت الخيّرين كعبد الله بن حنظلة. لقد وصل هذا الخبر إلى كافّة أقطار العالم وعُلِم أن النّظام الحاكم سوف يقف بقوّة أمام أيّة حركة من هذا القبيل، ولن يسمح بأيّ نحو من التحرّكات.
المختار ومصعب وحركة التوّابين
الحادثة الأخرى الّتي أدّت إلى إضعاف الشّيعة، هي حادثة شهادة المختار في الكوفة، وتسلّط عبد الملك بن مروان على كامل العالم الإسلاميّ.
فبعد موت يزيد، تبعه خلفاء أحدهم معاوية بن يزيد الّذي لم يحكم لأكثر من ثلاثة أشهر، ثمّ مروان بن الحكم الّذي حكم لمدة سنتين أو أقل، ثمّ وصل الأمر إلى عبد الملك الّذي كان أكثر خلفاء بني أميّة حنكةً كما جاء بشأنه: "كان عبد الملك أشدّهم شكيمة وأمضاهم عزيمة" .
فاستطاع عبد الملك أن يقبض على زمام أمور العالم الإسلاميّ بيده، وأن يوجد نظامًا إرهابيًّا وقمعيًّا، وكان إمساكه بزمام الأمور متوقّفًّا على القضاء على خصومه. فالمختار الشيعيّ قد صُفّي قبل مجيئه على يد مصعب بن الزبير. ولكنّ عبد الملك أراد أن يضع نهايةً لاستمرار حركة المختار وغيره والحركات الشيعيّة الأخرى. وبالفعل قام بذلك، حتّى عانى الشّيعة في العراق، وخاصّة الكوفة الّتي كانت في ذلك الوقت أهمّ مراكزهم، أشدّ معاناة.
(مجلة باسدار إسلام، 8)
وإن كانت حركة التوّابين الّتي حدثت عام 64 أو 65 للهجرة - حيث على الظّاهر كانت شهادتهم عام 65 - قد أوجدت جوًّا جديدًا في أجواء العراق المكبوتة، لكنّ استشهادهم جميعًا عن بكرة أبيهم أعاد جوّ الرّعب والقمع إلى الكوفة والعراق. وبعد أن توفّي أعداء الجهاز الأمويّ، أي المختار ومصعب بن الزبير، ولم يكن عبد الله بن الزبير في مكّة قادرًا على أن يتحمّل المختار التابع لأهل البيت عليهم السلام، فقتله بيد مصعب، وتجدّد هذا الرّعب والخوف أكثر وضعُفت الآمال. حتّى جاء في نهاية المطاف عبد الملك على رأس السّلطة، ولم تمرّ مدّة قصيرة حتّى صار كلّ العالم الإسلاميّ تحت سلطة بني أميّة المنحوسة بكلّ اقتدارهم، وتمكّن عبد الملك من أن يحكم طيلة 20 سنة بكلّ اقتدار.
(19/07/1986)
وفي كلّ الأحوال فقد بدأت هذه الأحداث من واقعة عاشوراء، وكان لها تبعات من قبيل واقعة الحرّة وقمع حركة التوّابين في العراق، وشهادة المختار، وشهادة إبراهيم بن مالك الأشتر النخعيّ، وآخرين من وجهاء الشّيعة حيث إنّه بعد شهادتهم تمّ قمع حركات التحرّر سواء في المدينة أم في الكوفة - اللتين كانتا المركز الأساس للتشيّع - وأُصيب التشيّع في العالم الإسلاميّ بحالة من القمع الشديد وغاص أتباع الأئمّة في منتهى الغربة والوحدة.
عصر الانحطاط الفكريّ والاخلاقيّ
هناك عاملٌ آخر إلى جانب هذا الرّعب وهو الانحطاط الفكريّ للنّاس، في كلّ أطراف العالم الإسلامي وأكنافه، وهو الّذي نشأ من عدم الاهتمام بتعاليم الدّين في مرحلة العشرين سنة الماضية. وفيما بعد هُجر التّعليم الدينيّ وتعليم الإيمان وتفسير الآيات وبيان الحقائق منذ زمن النبيّ ـ في مرحلة العشرين سنة بعد عام 40 للهجرة وإلى ذاك الوقت ـ فابتُلي النّاس بلحاظ الاعتقاد والأصول الإيمانيّة بالخواء والفراغ.
عندما يضع المرء حياة النّاس في ذلك العهد تحت المجهر يتّضح هذا الأمر من خلال التّواريخ والرّوايات المختلفة الموجودة. بالطّبع، كان هناك علماء وقرّاء ومحدّثون، سيأتي التعرّض لهم، لكنّ عامّة النّاس ابتُلوا بعدم الإيمان وضعف الاعتقاد ضعفًا كبيرًا. وقد وصل الأمر إلى حيث إنّ بعض أيادي جهاز الخلافة يُشكّكون في النبوّة! ذُكر في الكتب أنّ خالد بن عبد الله القسري، ويُعدّ من عمّال بني أميّة المنحطّين جدًّا والسيّئين، كان يُفضّل الخلافة على النبوّة ويقول: "إنّ الخلافة أفضل من النبوّة"، ثمّ يستدل قائلًا: "أخليفتك في أهلك أحب إليك وآثر عندك أم رسولك"، أي لو أنّك تركت في أهلك شخصًا يخلفك في غيبتك فهل هو أفضل وأقرب إليك أم ذاك الّذي يأتيك برسالةٍ ما من مكانٍ معيّن؟ فمن الواضح أنّ ذاك الّذي جعلته في بيتك خليفةً لك سيكون أقرب إليك. فخليفة الله - وهنا لا يقول خليفة رسول الله - هو أفضل من رسول الله! إنّ ما كان يقوله خالد بن عبد الله القسريّ كان يجري على لسان الآخرين.
وعندما نظرت في أشعار شعراء العصر الأمويّ وجدت أنّه منذ زمان عبد الملك قد تكرّر تعبير خليفة الله في الأشعار إلى درجة أنّه ينسى المرء أنّ الخليفة هو خليفة النبيّ! فقد استمرّ هذا الأمر إلى زمن بني العبّاس.
بني أميّة هبّوا طال نومُكمُ إنّ الخليفة يعقوب بن داوودِ
ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا خليفة الله بين الزقّ والعودِ
حتّى عندما كانوا يريدون هجاء الخليفة كانوا يقولون خليفة الله! وأينما كان الشّعراء المعروفون في ذلك الزمان كجرير والفرزدق وكُثير وغيرهم، ومئات الشّعراء المعروفين والكبار، عندما يريدون مدح الخليفة كانوا يُطلقون عليه لقب خليفة الله، لا خليفة رسول الله. وهذا نموذجٌ واحد. لقد ضعُفت عقائد النّاس بهذا الشكل حتّى فيما يتعلّق بأصول الدين. أمّا أخلاقهم فقد انحطّت بشدّة.
هناك نقطة لفتت نظري أثناء مطالعتي لكتاب الأغاني لأبي الفرج، وهو أنّه في سنوات الـ 70 والـ 80 والـ 90 والمئة إلى 150، 160 تقريبًا، فإنّ أشهر المغنّين والمطربين واللاعبين والعابثين في العالم الإسلاميّ كانوا في المدينة أو في مكّة، وكلّما كان يضيق صدر الخليفة في الشام شوقًا للغناء، ويُطالب بمغنٍّ أو مطرب، كانوا يرسلون له من المدينة أو مكّة أحد المطربين المعروفين أو المغنّين. فأسوأ الشعراء والماجنين كانوا في مكّة والمدينة. فمهبط وحي النبيّ ومنشأ الإسلام أضحى مركزًا للفحشاء والفساد. ومن الجيّد أن نعرف هذه الأمور بشأن تاريخ المدينة ومكّة.
وللأسف في الآثار الّتي لدينا، لا يوجد مثل هذه الأشياء، وهي أمورٌ واقعيّة حدثت. وأنا العبد أعرض لنموذجٍ من رواج الفساد والفحشاء.
كان في مكّة شاعرٌ يُدعى عمر بن أبي ربيعة، وهو من شعراء التعرّي والمجون، وقد مات في أوج قدرته وفنّه الشعريّ. ولو أردنا ذكر قصص هذا الشّاعر وماذا كان يفعل في مكّة لاحتاج الأمر إلى فصلٍ مشبّعٍ بالتّاريخ المؤسف لذلك العصر، في مكّة والطواف ورمي الجمرات. وهذا البيت مذكور في كتاب المغني:
بدا لي منها معصمٌ حينما جَمَّرت وكفٌّ خضيبٌ زُيّنت ببنان
فوالله ما أدري وإن كنت داريًا بسبعٍ رميتُ الجمر أم بثمانيِ
وعندما مات عمر بن أبي ربيعة، ينقل الراوي أنّه أقيم في المدينة عزاءٌ عام وكان النّاس يبكون في أزقّة المدينة. ويقول إنّني أينما ذهبت كنت أجد مجموعة من الشباب، نساءً ورجالًا، واقفين ويبكون عمر بن أبي ربيعة في مكّة، فشاهدت جارية تسعى في عملها وتحمل دلواً لتُحضر الماء، وكانت دموعها تنهمر على خدّيها بكاءً على عمر بن أبي ربيعة غمًّا وأسفًا، وعندما وصلت إلى مجموعة من الشّباب سألوها لماذا تبكين لهذا الحدّ؟ فقالت لأنّ هذا الرّجل قد مات وخسرنا، فقال لها أحدهم، لا تحزني هناك شاعرٌ آخر في المدينة هو خالد المخزوميّ، والّذي كان لمدّةٍ حاكمًا على مكّة من طرف علماء الشّام، وقد كان من شعراء التعرّي والمجون، كعمر بن أبي ربيعة، فذكروا لها ذاك البيت وأرادوا أن يذكروا لها بعض الأبيات الشعريّة لهذا الشّاعر، فاستمعت هذه الجارية قليلًا - وقد ذُكر في "الأغاني" هذا الشّعر وخصائصه - فمسحت دموعها وقالت: "الحمد الله الّذي لم يُخلِ حرمه". فإذا فُقد شاعرٌ جاء آخر، هذا نموذج من الوضع الأخلاقيّ لأهل المدينة.
والقصص كثيرة عن سهرات مكّة والمدينة. ولم تكن المسألة منحصرة بالأفراد المنحطّين، بل شملت الجميع في المدينة، بدءًا من ذاك المتسوّل المسكين كأشعب الطمّاع المعروف الّذي كان شاعرًا ومهرّجًا ومرورًا بالأفراد العاديّين وأبناء السّوق وأمثال هذه الجارية إلى أبناء المعروفين من قريش وحتّى بني هاشم، كانوا من هؤلاء الّذي غرقوا في هذه الفحشاء.
وفي زمن أمارة هذا الشّخص المخزوميّ، جاءت عائشة بنت طلحة وكانت تطوف، وكان يُحبّها، وعندما حان وقت الأذان أرسلت هذه المرأة رسالةً أن لا تؤذّنوا حتّى أُنهي طوافي، فأُمر بعدم رفع أذان العصر! فقيل له أنت تؤخّر الأذان من أجل شخصٍ واحدٍ وامرأة تطوف: أوَتؤخّر صلاة النّاس؟! فقال: واللهِ لو أنّ طوافها بقي إلى الصبح لقلت لهم أن يؤخّروا الأذان إلى الصبح! هذا كان حال ذلك الزمن.
(19/07/1986)
المصدر: كتاب إنسان بعمر 250 سنة، للامام الخامنئي، الفصل السادس: الإمام الحسين (ع)