
إنّ الحديث عن الإمام السجّاد عليه السلام وكتابة سيرته عملٌ صعب، لأنّ أساس تعرّف النّاس إلى هذا الإمام تمّ في أجواء غير مساعدة إطلاقًا. ففي ذهن أغلب كتّاب السّيرة والمحلّلين أنّ هذا الإنسان العظيم قد انزوى للعبادة ولم يكن له أيّ تدخّل في السّياسة. حتّى أنّ بعض المؤرّخين وكتّاب السّيرة ذكروا هذه المسألة ذكرًا صريحًا. أمّا الّذين لم يقولوا هذا الأمر بصراحةٍ فإنّ مفهومهم عن حياة الإمام السجّاد عليه السلام ليس سوى هذا الأمر.
وهذا المعنى موجودٌ في الألقاب الّتي تُنسب إليه والتّعابير الّتي يُطلقها النّاس عليه: كما يُطلق عليه بعض النّاس لقب "العليل"، في حين أنّ مرضه لم يستغرق أكثر من عدّة أيّام في واقعة عاشوراء. ومن الطّبيعيّ أنّ كلّ إنسان يمرض في حياته عدّة أيّام، وإن كان مرض الإمام للمصلحة الإلهيّة حتّى لا يُكلّف هذا العظيم بالدّفاع والجهاد في سبيل الله في تلك الأيّام، ليستطيع في المستقبل أن يحمل الحمل الثّقيل للأمانة والإمامة على عاتقه، ويبقى حيًّا بعد والده لمدّة 34 أو 35 سنة، تُعدّ أصعب مراحل عصور الإمامة عند الشّيعة. أنتم عندما تنظرون إلى ماضي حياة الإمام السجّاد عليه السلام سوف تجدون حوادث متنوّعة ولافتة جدًّا، كما حدث لبقيّة أئمّتنا، وربّما إذا جمعنا سير الأئمّة عليهم السلام معًا فلن نجد مثل سيرة السجّاد عليه السلام.
إنّ سيرة كلّ إنسان بالمعنى الواقعيّ للكلمة تتّضح عندما نعرف التّوجّه العامّ الّذي سار عليه، ومن بعدها نقوم بملاحظة الحوادث الجزئيّة في حياته. فإذا عُرف التّوجّه العامّ، فإنّ الحوادث الجزئيّة سوف تُصبح ذات معنى، أمّا إذا لم يُعرف ذلك التوجّه أو فُهم خطأ، فإنّ تلك الحوادث الجزئيّة سوف تُصبح دون معنى أو ذات معنًى خاطئ. وهذا لا يختصّ بالإمام السجّاد عليه السلام أو باقي أئمّتنا عليهم السلام فقط، بل إنّ هذا يصدق وينطبق على سيرة الجميع.
مثلاً بخصوص الإمام السجّاد عليه السلام نجد أنّ رسالته إلى محمّد بن شهاب الزهريّ تُعتبر نموذجًا لأحد الحوادث في حياته. فلو أخذنا هذه الحادثة بنفسها، وبمعزل عن بقية الحوادث في تلك المرحلة، لا يُمكن أن نفهم شيئًا. فقد تُفهم هذه الرّسالة على أنّها من أحد الّذين ينتسبون إلى آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، لأحد العلماء المعروفين في ذلك الزّمان، في هذا المجال توجد عدّة آراء: هذه الرسالة يُمكن أن تكون جزءًا من جهادٍ واسعٍ وأساس، ويمكن أن تكون نهيًا بسيطًا عن منكر، ويُمكن أن تكون اعتراضَ شخصيّةٍ على شخصيّةٍ أخرى كالاعتراضات الّتي تُشاهد كثيرًا على طول التّاريخ بين شخصيّتين أو عدّة أشخاص. ولا يُمكن فهم شيءٍ من هذه القضيّة فهمًا تلقائيًّا وبمعزل عن بقيّة أحداث تلك المرحلة. والهدف من هذه المسألة هو أنّنا إذا التفتنا إلى الحوادث الجزئيّة وقطعنا النّظر عن التّوجّه العامّ في حياة الإمام فلن تُفهم سيرته، لذلك لا بدّ من أن نعرف التوجّه العامّ في سيرته.
إنّ بحثنا الأوّل هو حول التوجّه العام للإمام السجّاد عليه السلام في الحياة ونقرنه بكلماته، وأيضاً بالمفهوم العامّ لحياة الأئمّة عليهم السلام ثمّ نوضحه.
نحن نُشاهد بعد صلح الإمام الحسن عليه السلام، الّذي وقع في السّنة الأربعين للهجرة، أنّ أهل البيت لم يلتزموا البقاء داخل البيت والاقتصار على بيان الأحكام الإلهيّة كما يفهمونها فقط، بل نجد منذ أوّل أيّام الصّلح أنّ برنامج كلّ الأئمّة عليهم السلام كان يقوم على تهيئة المقدّمات لإقامة الحكومة الإسلاميّة بحسب النّهج الّذي يرونه. وهذا ما نُلاحظه بوضوح في حياة الإمام المجتبى عليه السلام وكلماته.
من هذه الجّهة كان عمل الإمام الحسن عليه السلام عملًا عميقًا جدًّا وتأسيسيًّا. لقد عاش الإمام الحسن عليه السلام مع كلّ تلك التحوّلات عشر سنوات، اجتمع حوله، في هذه المدّة، أفراد وتربّوا على يديه. توزّع قسمٌ منهم في كلّ زاوية لمواجهة نظام معاوية وإضعافه بشهادتهم واعتراضاتهم وصرخاتهم.
وفيما بعد وصل الدّور إلى الإمام الحسين عليه السلام. وقد تابع هذا العظيم ذلك النّهج نفسه في المدينة ومكّة ومناطق أخرى حتّى هلك معاوية وجرت واقعة كربلاء. وإن كانت واقعة كربلاء ثورة مفيدة جدًّا ومثمرة لمستقبل الإسلام، لكنّ ذاك الهدف الّذي كان الإمام الحسن والإمام الحسين عليهما السلام يسعيان لأجله تأخّر، لأنّ النّاس قد أُرعبوا وجرت تصفية الأتباع المقرّبين للإمام الحسن والإمام الحسين عليهما السلام، وتسلّط الأعداء فكان وقوع ذلك الحادث طبيعيًّا. فلو لم تجرِ نهضة الإمام الحسين عليه السلام على هذا النّحو، فإنّ التّخمين هو أنّه كان هناك مجال، فيما بعد (الإمام الحسين عليه السلام) وفي المستقبل القريب، لتحرّكٍ ينتهي إلى تسليم الحكومة للشّيعة. ولا يعني هذا الكلام أنّه لم يكن النّهوض واجبًا على الإمام الحسين عليه السلام، بل إنّ الظّروف الّتي كانت في هذه الثّورة كانت تفرض أن تحدث في ذلك الوقت ولا شكّ في ذلك أبدًا. لكن لو لم تكن تلك الظّروف، ولو لم يستشهد الإمام الحسين عليه السلام في تلك الواقعة، فالاحتمال الأكبر أنّ المستقبل الّذي تطلّع إليه الإمام الحسن عليه السلام كان سيتحقّق بسرعة.
لقد كان الأئمّة عليهم السلام في سعيٍ وراء هذا الخطّ وهذا الهدف، وكانوا يسعون دائمًا لتشكيل الحكومة الإسلاميّة. وعندما استُشهد الإمام الحسين عليه السلام في واقعة كربلاء، وأُسر الإمام السجّاد عليه السلاموهو في تلك الحالة من المرض، فمنذ تلك اللحظة، بدأت في الحقيقة مسؤولية الإمام السجّاد عليه السلام. ولو قُدّر في ذلك التاريخ أن ينجح الإمام الحسن والإمام الحسين عليهما السلام في تأمين ذلك المستقبل لقام الإمام السجّاد عليه السلام في ذلك الوقت بالتحديد بهذا الأمر ومن بعده الأئمّة الباقون عليهم السلام.
بناءً عليه، ينبغي أن نبحث في مجمل حياة الإمام السجّاد عليه السلام عن هذا الهدف الكلّي والمنهج الأصليّ، وأن نعرف دون شك أنّ الإمام السجّاد عليه السلام كان يسعى لأجل تحقيق ذلك الهدف الّذي كان يسعى لأجله الإمام الحسن والإمام الحسين عليهما السلام.
كان الإمام السجّاد عليه السلام، في الفترة ما بين تسلّمه للإمامة منذ عاشوراء 61 هـ. واستشهاده مسمومًا عام 94 هـ، يُتابع مسؤوليّة تحقّق ذلك الهدف. لذلك ينبغي أن نُفسّر جزئيّات عمل الإمام والمراحل الّتي مرّ بها والأساليب الّتي استعملها، والتّوفيقات الّتي حصلت، وكلّ الأمور الّتي بيّنها، وكلّ التحرّكات الّتي قام بها، والأدعية والمناجاة الّتي جُمعت في الصحيفة السجّادية... كلّ هذا ينبغي أن يُفسَّر على ضوء الخطّ العامّ.
ومن المواقف الّتي اتّخذها طوال مدّة الإمامة:
1- موقفه أمام عبيد الله بن زياد ويزيد، الّذي تميّز بالبطولة والشّجاعة والفداء.
2- موقفه من "مسرف بن عقبة" الّذي تميّز بالهدوء، هذا الرجل الّذي قام بتدمير المدينة واستباح أموالها بأمر من يزيد في السّنة الثّالثة من حكمه.
3- حركة الإمام أمام عبد الملك بن مروان، أقوى خلفاء بني أميّة وأمكرهم، حيث تميّز موقفه بالشدّة حينًا واللين حينًا آخر.
4- تعامل الإمام عليه السلام مع عمر بن عبد العزيز.
5- تعامل الإمام مع أصحابه وأتباعه ووصاياه لأصحابه.
6- موقف الإمام من وُعّاظ السّلاطين وأعوان الظلمة.
كل هذه المواقف والتحرّكات ينبغي أن تُدرس بدقّة. ووفق تصوّري أرى أنّه بالالتفات إلى النّهج العام، فإنّ كل هذه الجزئيّات والحوادث سوف تكتسب معانٍ مناسبة وواضحة. وسوف نجد عندها أنّ هذا الإنسان العظيم قد قضى كلّ حياته وسعيه في طريق الهدف المقدّس وهو عبارة عن إقامة حكومة الله على الأرض وتطبيق الإسلام، وقد استفاد من أنضج وأفضل الوسائل، وتقدّم بالقافلة الإسلاميّة، الّتي كانت بعد واقعة عاشوراء في تشرذمٍ وتفرّق مهول، وأنجز مهمّته العظمى ومسؤوليّته الأصيلة (الّتي سوف نشير إليها بالتفصيل لاحقاً)، والّتي قام بها كلّ أئمّتنا وجميع الأنبياء والصّالحين، مراعيًا أصول السّياسة والشّجاعة والدقّة في الأعمال. وبعد 35 سنة من الجهاد المستمرّ، الّذي لم يعرف الرّاحة أبدًا، رحل عن الدّنيا كريمًا مرفوع الرّأس موكلًا حمل ثقل الرّسالة من بعده إلى الإمام الباقر عليه السلام.
إنّ انتقال الإمامة إلى الإمام الباقر عليه السلام، وهي تحمل مهمّة إقامة حكومة الله على الأرض، تظهر بصورةٍ واضحة في الرّوايات. ففي رواية، نجد أنّ الإمام السّجّاد عليه السلام يجمع أبناءه مشيرًا إلى محمّد بن علي الباقر عليه السلام ويقول: "... احمل هذا الصندوق وخذ هذا السّلاح وهذه الأمانة بيدك"، وحينما فتح الصّندوق كان فيه القرآن والكتاب .
لعلّ ذلك السّلاح يرمز إلى القيادة الثّوريّة، وذلك الكتاب يرمز إلى الفكر والعقيدة الإسلاميّة، وقد أودعهما الإمام السجّاد عليه السلام الإمام الّذي سيأتي من بعده مودّعًا الدّنيا، راحلًا إلى جوار الرّحمة الإلهيّة بنفسٍ مطمئنّة ووجدانٍ هادئ ورأسٍ مرفوع. كانت هذه هي الصّورة العامّة لحياة الإمام السجّاد عليه السلام.
ولكن إذا أردنا أن ندرس تفاصيل الأحداث، علينا أوّلًا أن نُمهّد لها بالوضع السّابق لها، إذ يوجد في حياة الإمام السّجّاد فصلٌ قصير ومحدّد نذكره أوّلًا، ثمّ نقوم بعدها بشرح المسير العاديّ لحياة الإمام وتفصيل الأوضاع وأحوال الزّمان والظّروف الّتي كانت سائدة.
(مجلة باسدار اسلام، 6)
لقد بدأت حياة الإمام السّجّاد بمرحلة مليئة بالصّعاب، حيث جرت حادثة كربلاء، الّتي لم تهزّ كيان الشّيعة فحسب، بل هزّت الأمّة الإسلاميّة بأجمعها. ومع أنّ القتل والأسر والتّعذيب كان شائعًا آنذاك، لكنّ قتل أولاد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأسر العائلة النبويّة ووضع رؤوس آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم على الرّماح والاستهانة بمن كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يُقبّل ثناياه، كلّ هذا قد زلزل العالم الإسلاميّ وصعقه. فلم يكن أحد يتوقّع أنّ الأمر سوف يصل إلى هذه المرحلة. ولا أدري مدى صحّة الشّعر المنسوب للسيدة زينب عليها السلام: "ما توهّمت يا شقيق فؤادي كان هذا مقدّرًا مكتـوبًا" ، فقد كان يشير إلى هذه النّقطة، وهذا كان استنتاج جميع النّاس. ففجأةً انتشر الشّعور بأنّ السياسة أضحت سياسة مختلفة، والتّشديد الّذي كان يشعر به الجميع أصبح أشدّ. فهذا البيت يُشير بلا شكّ إلى أنّ هذا الحدث كان غير متوقّع آنذاك. فلهذا أخذ الهول والفزع ينتاب الأمّة الإسلاميّة حيث شاهدت ورأت ما لم تكن تتوقّعه من التّنكيل والتّعذيب.
لذا، فقد عمّ الخوف والرّعب كافّة المناطق الإسلاميّة. وباستثناء الكوفة، وذلك بفضل التوّابين وبعدها بفضل المختار، فإنّ الرّعب الذي ساد المدينة وغيرها من المناطق، وحتّى مكّة المكرّمة مع وجود عبد الله بن الزّبير الّذي ثار بعد مدّة، بسبب حادثة كربلاء المفجعة، كان رعبًا غير مسبوقٍ في العالم الإسلاميّ.
بناءً عليه، فإنّ الوضع الفكريّ، وهذا الوضع من الفساد الأخلاقيّ، والفساد السياسيّ كان عاملًا آخر. فأغلب الشخصيّات الكبار قد تشبّثوا بفضلات الحياة المادية لرجال الحكومة آنذاك. شخصيّات كبيرة مثل محمّد بن شهاب الزهري، الذي كان في مرحلة من المراحل، من تلامذة الإمام السّجّاد عليه السلام، فقد أصبح تابعًا للجهاز الحاكم. وتلك الرّسالة المعروفة للإمام السجّاد إلى محمد بن شهاب الزّهريّ، التي هي رسالة تاريخيّة وموثّقة في كتاب "تحف العقول" وأماكن أخر، تبيّن أي نوع من الروابط والانتماءات لأمثال هذه الشخصيّات الكبيرة.
وأمثال هؤلاء أيضًا، محمّد بن شهاب، حيث نقل العلّامة المجلسيّ في البحار على ما يبدو عن جابر بن عبد الله أنّ الإمام السّجّاد عليه السلام قال: "ما ندري كيف نصنع بالنّاس، إن حدّثناهم بما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضحكوا"، فهم لا يكتفون بالرّفض بل يضحكون استهزاءً، "وإن سكتنا لم يسعنا" . ومن ثمّ يذكر حادثةً حيث نقل الإمام حديثًا لجماعةٍ كان فيها شخصٌ استهزأ ورفض ذلك الحديث. ثمّ يذكر بشأن سعيد بن مسيّب والّزهريّ أنّهم كانوا منحرفين، وبالطّبع أنا العبد، لا أقبل ذلك بشأن سعيد بن مسيّب، فهناك شواهد عديدة على أنّه كان من حواريّي الإمام، لكن ما يتعلّق بالزّهريّ وكثيرون غيره كان الأمر كذلك. ويُعدّد ابن أبي الحديد أسماء عدد من الشخصيّات ورجال ذلك الزمان من الّذين كانوا من أتباع أهل البيت عليهم السلام ثمّ انحرفوا فيما بعد.
كان يجب إصلاح دين النّاس، وإصلاح أخلاق النّاس، وإخراج النّاس من مستنقع الفساد، كما كان يجب إعادة إحياء التوجّه إلى المعنويّات، المعنويّات التي هي لبّ لباب الدّين وروحه الأصليّ. لذا ترون أنّ أكثر الكلام المنقول عن الإمام السجّاد عليه السلام هو في الزّهد: "إنّ علامة الزاهدين في الدنيا الراغبين عنها في الآخرة...إلخ" . هذه الجملة هي بداية حديثٍ طويل مفصّل. وإنّ كان في هذا الحديث مفاهيم وإشارة إلى تلك الأهداف التي ذكرناها. أو "أوَلا حرّ يدع هذه اللماظة لأهلها فليس لأنفسكم ثمن إلا الجنّة ألا فلا تبيعوها بغيرها" .
إنّ أكثر كلمات الإمام السّجّاد عليه السلام كانت حول الزّهد والمعارف الإسلاميّة، إلّا أنّ الإمام كان يطرح المعارف الإسلاميّة ويُبيّنها من خلال الدّعاء، وذلك لأنّ الظّروف في ذلك العهد، وكما كُنّا قد ذكرنا، كان يسودها القمع، ولم يكن الوضع ملائمًا بحيث يسمح للإمام السجّاد عليه السلام بأن يتكلّم إلى النّاس ويطرح آراءه بصورة صريحة وواضحة، لم تكن الأجهزة فقط هي المانع بل النّاس أيضًا كانوا يرفضون ذلك. أساسًا، فإنّ المجتمع كان قد أصبح مجتمعاً فاسدًا ضائعاً فاقدًا للاستعداد، وكان يجب إعادة بنائه من جديد.
كانت حياة الإمام السّجّاد عليه السلام لمدة 34 أو 35 سنة، من عام 61 هـ إلى 95 هـ، على هذا النّحو. وكلّما كان يمضي الوقت كان الوضع يتحسّن، حتّى قال الإمام الصادق عليه السلام، كما ذكرناه سابقاً، "ارتدّ النّاس بعد الحسين..." إلى أن قال "ثم إنّ النّاس لحقوا وكثروا". وفي زمن الإمام الباقر عليه السلام تحسّن الوضع عمّا كان عليه في زمن السجّاد عليه السلام وهذا بفضل ما بذله الإمام السجّاد من جهد خلال 35 سنة.
(19/07/1986)
يظنّ بعض النّاس أنّه لو أراد الإمام أن يقاوم نظام بني أميّة لكان ينبغي أن يرفع راية المقاومة العسكريّة، أو أن يلتحق بالمختار، أو عبد الله بن حنظلة، أو أن يقودهما معلنًا بذلك المقاومة المسلّحة بكلّ وضوح. لكن بالنّظر إلى ظروف زمن الإمام السجّاد عليه السلام، وبالالتفات إلى هدف الأئمّة عليهم السلام، نفهم أنّ هذا النّوع من التّفكير هو تفكيرٌ خاطئ.
فلو قام الأئمّة عليهم السلام، ومن جملتهم الإمام السجّاد عليه السلام، في تلك الظّروف بمثل هذه التحرّكات العلنيّة والسّلبيّة، فباليقين لما بقي للشّيعة باقية، ولما بقيت الأرضيّة أو فُسح المجال لاستمرار ونموّ مدرسة أهل البيت ونظام الولاية والإمامة فيما بعد. لهذا نجد أنّ الإمام السجّاد عليه السلام في قضيّة المختار، لم يُعلن التعاون معه، ورغم ما جاء في بعض الروايات عن ارتباطٍ سريّ بينهما، إلاّ أنّه ودون شكّ، لم يكن ارتباطًا علنيًّا، حتّى قيل في بعض الرّوايات إنّ الإمام السجّاد عليه السلام كان يذمّ المختار، ويبدو هذا الأمر طبيعيًّا جدًّا من ناحية التقيّة، وذلك حتّى لا يُستشعر وجود أيّ ارتباط بينهما، مع العلم بأنّ المختار فيما لو انتصر فإنّه بالتأكيد كان سيُعطي الحكومة لأهل البيت عليهم السلام، ولكن في حال هزيمته، ومع وجود أدنى ارتباط واضحٍ وعلنيّ، لكانت النّقمة شملت وبشكل قطعيّ الإمام السجّاد عليه السلام وشيعة المدينة واجتثّت جذور التشيّع أيضًا. لأجل ذلك لم يُظهر الإمام عليه السلام أيّ نوعٍ من الارتباط العلنيّ به.
ورد في رواية أنّه عندما دخل مسلم بن عقبة إلى المدينة في واقعة الحرّة، لم يشكّ أحدّ على الإطلاق في أنّ أوّل شخص سيقع ضحيّة نقمته هو عليّ بن الحسين عليه السلام، لكنّ الإمام السجّاد عليه السلام بتدبيره الحكيم تصرّف بحيث دفع البلاء عنه، وبذلك حافظ على استمرار المحور الأصليّ للشيعة.
وهناك روايات في بعض الكتب ـ من جملتها "بحار الأنوار" ـ تحكي عن إظهار التذلّل من قِبَل السجّاد عليه السلام عند مسلم بن عقبة، ولكن هذه الرّوايات كاذبة قطعًا وذلك للأسباب التالية:
أوّلًا: هذه الرّوايات لا تستند إلى أيّ سندٍ صحيح.
ثانياً: توجد روايات أخرى تُكذّبها وتدفعها من حيث المضمون.
توجد روايات عديدة بخصوص لقاء الإمام عليه السلام مع مسلم بن عقبة لا تنسجم أيّ واحدة منها مع الأخرى، ولأنّ بعض تلك الروايات ينطبق وينسجم أكثر مع نهج الأئمّة وسيرتهم، فنحن بصورة طبيعيّة نقبلها.
على كلّ حال، مع أنّنا لا نقبل تلك الرّوايات الّتي تتحدّث عن صدور مثل هذه الأفعال عن الإمام، لكنّنا لا نشك أيضًا في أنّ الإمام لم يُقابل مسلم بن عقبة بتصرّفٍ معادٍ، لأنّ أيّ تصرّف من هذا القبيل سوف يؤدّي إلى قتل الإمام، وهذا سيؤدّي بدوره إلى خسارة عظيمة لا تُجبر بلحاظ الدّور الّذي ينبغي أن يقوم به الإمام السجّاد عليه السلام بالنسبة لثورة الإمام الحسين عليه السلام وتبليغ حقيقتها. لهذا يبقى الإمام عليه السلام ـ وكما قرأنا في رواية الإمام الصادق عليه السلام ـ ويلحق النّاس به شيئًا فشيئًا ويزداد عددهم. وفي ظلّ تلك الظّروف الصّعبة وغير المساعدة يبدأ عمل الإمام السجّاد عليه السلام.
بالطّبع، كان جهاز عبد الملك ـ حيث إنّ معظم عهد إمامة الإمام السجّاد، البالغة ثلاثين سنة ونيّف، كانت في ظلّ هذه الحكومة ـ يقوم بالرّصد التام والمراقبة الدائمة لحياة الإمام السجّاد عليه السلام، ويستخدم الجواسيس والعيون الكثيرة الّتي كانت تنقل إليه أدقّ التفاصيل حتّى المسائل الداخلية والخاصّة بالإمام عليه السلام.
المصدر: كتاب إنسان بعمر 250 سنة، للامام الخامنئي، الفصل الثامن: الإمام السجاد (ع)