
ما سنقوم بدراسته هنا هو كلمات الإمام السجّاد عليه السلام الواردة في كتاب "تحف العقول" حيث نُشاهد عدّة أنواع من الأسلوب المذكور والّتي تُشير إلى طبيعة الجهات المخاطَبة.
أحد تلك الأنواع هو الكلمات الموجّهة إلى عامّة النّاس، والّتي يظهر فيها أنّ المستمع ليس من الجماعة المقرّبة والخاصّة للإمام أو من الكوادر التّابعين له. وفي هذه الخطابات يستند الإمام عليه السلام دائمًا إلى الآيات القرآنية، لماذا؟ لأنّ عامّة النّاس لا ينظرون إلى الإمام السجّاد عليه السلام كإمام، بل يطلبون الدّليل في كلماته، ولهذا كان الإمام يستدلّ إمّا بالآيات أو بالاستعارة من الآيات. ولعلّه في هذه الرّوايات، قد استخدم في 50 موردًا أو أكثر آيات قرآنيّة إمّا بصورة مباشرة أو بطريق الاستعارة.
أمّا في الخطاب الموجّه إلى المؤمنين نجد الأمر يختلف، لأنّ هؤلاء المؤمنين يعرفون الإمام السجّاد عليه السلام وقوله مقبول عندهم، لهذا لم يكن يستند في كلامه إلى الآيات القرآنية. ولو أحصينا كلّ كلامه الموجّه إليهم لوجدنا أنّ استخدام الآيات القرآنية فيه قليل جدًّا.
في رواية مفصّلة من كتاب "تحف العقول" تحت عنوان: "موعظته لسائر أصحابه وشيعته وتذكيره إيّاهم كلّ يوم جمعة" ، نجد أنّ دائرة المستمعين واسعة وهذا ما نستنتجه من القرائن المفصّلة الواردة فيها. فلم يستخدم الإمام عليه السلام في هذه الرّواية كلمة "أيّها المؤمنون" أو "أيّها الإخوة"، وأمثالها، حتّى نعلم أنّ خطابه موجّه إلى جماعة خاصّة، ولكنّه قال "أيّها النّاس" وهذا يُشير إلى عموميّة الخطاب. في حين أنّه في بعض الروايات الأخرى كان الخطاب موجّهًا بصورة خاصّة إلى المؤمنين.
ثانياً، لا يوجد في هذه الرواية تصريحٌ بشيء معارض للجهاز الحاكم، بل انصرف كلّ الخطاب لبيان العقائد وما ينبغي أن يعرفه الإنسان، وذلك بلسان الموعظة. فالخطاب يبدأ هكذا: "أيها النّاس، اتقّوا الله واعلموا أنّكم إليه راجعون...". ثمّ يتطرّق الإمام عليه السلام إلى العقائد الإسلاميّة ويوّجه النّاس إلى ضرورة فهم الإسلام الصّحيح. وهذا يدلّ على أنّهم لا يعرفون الإسلام الصحيح، وهو يريد بذلك إيقاظهم من غفلة الجهل إلى معرفة الإسلام وتعاليمه.
فانظروا مثلاً كيف يستفيد الإمام السّجاد عليه السلام من الأسلوب الجذّاب، حيث يقول هنا: "ألا وإنّ أوّل ما يسألانك عن ربّك الّذي كُنتَ تعبده" ويمضي على هذا المنوال ناصحًا، ويُخوّف من ذلك الوقت الّذي يوضع المرء في قبره ويأتي منكر ونكير لمساءلته. وبهذا يريد أن يوقظ فيهم الدّافع لمعرفة الله وفهم التوحيد، "وعن نبيّك الّذي أُرسل إليك"، ثمّ الدافع لفهم النبوة، "وعن دينك الّذي كنت تدين به، وعن كتابك الّذي كنت تتلوه..." .
وأثناء عرضه لهذه العقائد الأصيلة والمطالب الأساس للإسلام، كالتوحيد والنبوّة والقرآن والدين، يُبيّن هذه النقطة الأساس بقوله عليه السلام: "وعن إمامك الّذي كنت تتولّاه" ، فهو هنا يطرح موضوع الإمامة. وقضيّة الإمامة عند الأئمّة تعني قضيّة الحكومة أيضًا، إذ لا يوجد فرق بين الولاية والإمامة على لسان الأئمّة عليهم السلام. وإن كان للوليّ والإمام معانٍ مختلفة عند بعض النّاس ولكن هاتين القضيّتين - الولاية والإمامة ــ على لسان الأئمّة أمرٌ واحدٌ والمراد منهما واحد. وكلمة "الإمام" المقصودة هنا تعني ذلك الإنسان المتكفّل بإرشاد النّاس وهدايتهم من الناحية الدينيّة، والمتكفّل أيضًأ بإدارة أمور حياتهم من النّاحية الدنيويّة، أي خليفة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الإمام هو قائد المجتمع، أي ذلك الإنسان الّذي نتعلّم منه ديننا وتكون بيده إدارة دنيانا أيضًا، بحيث تكون إطاعته في أمور الدّين والدّنيا واجبة علينا.
في عالم التشيّع تعرّضت هذه القضيّة (دور الإمام) إلى فهمٍ خاطئ طيلة قرون متتالية. ففي السّابق، كان النّاس يتصوّرون أنّ الإمام يتفرّد بحكم المجتمع، وهو الّذي ينبغي أن يُدير أمور الحياة بيده وبجهده الذاتيّ: فيُحارب ويُصالح ويعمل ويُنفّذ كلّ طلب بنفسه، فهو يأمر النّاس وينهاهم من جهة، وفي نفس الوقت هو الّذي يُنفّذ هذه الأمور وحده لإصلاح دينهم!
واليوم أيضًا لقد تعرّضت هذه القضيّة للفهم الخاطئ بحيث أصبحنا نعتبر أنّ الإمام في عصر الغيبة ليس سوى عالمًا دينيًّا، وهذا بالطبع تصوّرٌ خاطئ. لفظة "الإمام" تعني المتقدّم والقائد. فالإمام الصادق عليه السلام عندما كان يُخاطب النّاس في منى أو عرفات بقوله: "أيّها النّاس إنّ رسول الله كان الإمام" ، كان يُشير إلى أنّ الإمام هو الّذي يتوّلى أمور النّاس الدينيّة والدنيويّة.
لقد كان هذا المعنى يُفهم فهمًا خاطئًا في المجتمع الإسلاميّ، أيّام حكم عبد الملك بن مروان وفي عصر الإمام السجّاد عليه السلام، وذلك لأنّ إمامة المجتمع، وهي إدارة شؤون حياة النّاس وبسط نظام العيش الّذي يُمثّل قسمًا مهمًّا من الإمامة، قد سُلبت من أهلها وأُعطيت إلى من لا أهليّة لهم بها، حيث كانوا يُلقّبون أنفسهم بالأئمّة ويعرفهم النّاس بذلك. فالنّاس كانوا يُطلقون لقب الإمام على عبد الملك بن مروان، ومن قبله أبيه وقبلهما يزيد وغيره. وقد قبلوهم على أساس أنّهم قادة المجتمع والحكّام على النّظام الاجتماعيّ للنّاس. وقد ترسّخ ذلك في أذهان النّاس.
وهكذا عندما كان الإمام السجّاد عليه السلام يقول إنّك ستُسأل عن إمامك في القبر، كان يُشير إلى أنّك هل انتخبت الإمام المناسب والصّحيح؟ وهل أنّ ذلك الشّخص الّذي كان يحكمك، ويقود المجتمع الّذي تعيش فيه هو حقّاً إمام؟ وهل هو ممّن رضي الله عنه؟ لقد كان الإمام بهذا الكلام يوقظ النّاس ليجعل هذه القضيّة حسّاسة في نفوسهم.
بهذه الطريقة كان الإمام يحيي قضيّة الإمامة، فلمّا لم يكن الجهاز الأمويّ الحاكم يرضى بأن يتمّ الحديث عنها، استخدم الإمام أسلوب الموعظة.(كانت هذه من إحدى الوسائل الهادئة الّتي استخدمها الإمام في هذا المجال، وسوف نُشير لاحقًا إلى أساليب أكثر تشدّدًا).
بناءً على هذا، ففي البيان العام الموجّه إلى عامّة النّاس نجد أنّ إمامنا، وبلغة الموعظة، يُحيي المعارف الإسلاميّة، وخاصّة تلك المعارف الحسّاسة في ذهن النّاس، ويسعى لأجل أن يتعرّف النّاس إليها ويتذكّروها.
ويُمكن الالتفات في هذا النوع من الخطاب إلى نقطتين اثنتين:
الأولى: أنّ هذا الأسلوب البيانيّ للإمام لم يكن تعليميًّا، بل هو من نوع التّذكير. أي إنّ الإمام لم يكن يجلس ليُبيّن للنّاس دقائق التّوحيد، أو ليُفسّر لهم مسألة النبوّة، وإنّما يُذكّرهم بها. لماذا؟ لأنّ المجتمع الّذي كان يعيش فيه الإمام السجّاد عليه السلام لم تكن تفصله عن مرحلة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مسافة زمنية كبيرة حتّى ينحرف كليًّا عن العقائد الإسلاميّة. بل كان هناك الكثير من الأشخاص الّذين عايشوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومرّت عليهم مرحلة الخلفاء الراشدين، وقد عاصروا أئمّتنا العظام من أمير المؤمنين عليه السلام إلى الإمام الحسن عليه السلام وإلى الإمام الحسين عليه السلام. ومن الناحية الاجتماعيّة لم يكن الوضع قد وصل إلى مرحلة يُعاني فيها المجتمع الإسلاميّ من الانحراف العقائديّ والأصوليّ.
بالنسبة لمسألة التوحيد والنبوّة والمعاد والقرآن. نعم، كانت هذه المسائل تدريجيًّا تخرج من ذاكرتهم، وكانت الحياة المادّية تُحيط بهم إلى درجة تُنسيهم الفكر الإسلاميّ والعقيدة الإلهيّة.
كانت الحياة الدنيويّة والمادّية تسري في المجتمع بحيث لا تُبقي في أذهان النّاس أيّ توجّه للمسابقة في مضمار المعنويّات والخيرات. وإذا وُجد هذا الأمر فإنّه لم يكن ليتعدّى القشور والسّطوح. أمّا بالنّسبة للمفهوم الّذي كان يحمله النّاس في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والعصر المتّصل به، عن التوحيد والحساسية المتميّزة تجاهه، فقد كانوا يفتقدونه في عصر الإمام. وهذا ما كان يستدعي التذكير حتّى يرجع الأمر إلى سابق عهده، لا أنّ هناك أشياء محرّفة ينبغي أن تُصحّح.
وهذا بخلاف المراحل اللاحقة، كمرحلة الإمام الصادق عليه السلام، لأنّ المسألة حينها لم تكن على هذه الشّاكلة. فقد ظهر في ذلك الوقت الكثير من المتكلّمين والمتفلسفين والمفكّرين، وتحت عناوين متعدّدة كانوا يجلسون في المساجد الكبرى، مثل مسجد المدينة وحتّى المسجد الحرام ومسجد الشام، ويُدرّسون العقائد المنحرفة والباطلة. لقد برز حينها أناس مثل "ابن أبي العوجاء" يُدرّسون عقائد الزنادقة والإلحاد. لهذا، بالتأمّل بأحاديث وكلمات الإمام الصادق عليه السلام نجد بيان التوحيد والنبوّة وأمثالها بصورة استدلالية . فالحاجة إلى الاستدلال ضروريّة لمواجهة استدلال الخصم، وهذا ما لا نجده في كلمات الإمام السجّاد عليه السلام، الّتي كانت تعتمد على الحالة الشعوريّة والوجدانيّة الّتي تُذكّر بالقضايا الأساس.
وباختصار، لم يكن عصر الإمام السجّاد عليه السلام يحكي عن خروج عن الفكر الإسلاميّ، حتّى عند الحكّام، إلّا في بعض الموارد الّتي يظهر فيها مثل هذا الأمر. وذلك عندما ألقى يزيد اللعين تلك الأبيات الشعريّة في حالة السكر عندما أُحضر أسرى أهل البيت عليهم السلام فقال:
لعبت هاشم بالملك فلا خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل
ولكنّنا نستطيع أن نقول إنّ هذا الكلام كان تحت تأثير السّكر. فحتّى أمثال عبد الملك أو الحجّاج لم يكونوا يجرؤون على إعلان مخالفتهم لفكرة التّوحيد أو النبوّة. لقد كان عبد الملك بن مروان يقرأ القرآن إلى درجة أنّه عُرف كأحد قرّاء القرآن. ثمّ عندما وصل إليه خبر تنصيبه خليفة قبّل القرآن وقال: ﴿قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ﴾ ، إنّ هذا ما حدث فعلًا. والحجّاج بن يوسف الّذي سمعتم عن ظلمه (وباليقين إنّ الّذي سمعتموه هو أقلّ بكثير ممّا فعله) كان عندما يخطب في النّاس يأمرهم بالتقوى. وهكذا نفهم سبب اعتماد الإمام السجّاد عليه السلام على التذكير بالأفكار الإسلاميّة لإخراج النّاس من مستنقع الدنيا والأهواء المادّية إلى ساحة معرفة الله والدين والقرآن.
الثانية: وهي ما أشرنا إليه سابقًا، من أنّ الإمام كان يأتي على ذكر مسألة الإمامة من خلال بيانه العامّ بصورةٍ مفاجئة. أي أنّه أثناء ذكره للقضايا الإسلاميّة مثلما كان يحدث في عهد النّظام الشاهنشاهيّ السّابق عندما كان أحدٌ يتحدّث معكم فيقول: أيّها السّادة توجّهوا إلى الله وفكّروا بقضيّة التّوحيد وبقضيّة الإمامة واهتمّوا بقضيّة الحكومة، فانظروا إنّ ما لدينا من إمامةٍ هنا نفهمها دون بيان الإمام السجّاد. نرى أنّ كلمة الحكومة هذه في عصر النّظام السّابق كانت كما تعلمون شيئًا خطيرًا، فلو أراد أحدٌ أن يجعل النّاس يهتمّون بقضيّة الحكومة ما كانت أجهزة السّلطة لتمرّ على هذا الكلام بسهولة. لكن إذا جاء ذلك بلغة الوعظ وعلى لسان رجل زاهد وعابد فإنّه يُمكن أن يُقبل لدى أجهزة السّلطة، وبتعبير آخر لن يُثير الحساسيّات. هذا نوع من بيانات الإمام السجّاد عليه السلام.
(مجلة باسدار إسلام، 9).
المصدر: كتاب إنسان بعمر 250 سنة، للامام الخامنئي، الفصل الثامن: الإمام السجاد (ع)