إنسان بعمر 250 سنة | خطاب الإمام السجاد(ع) لمخالفين الحكم 04

بالاضافة الى الخطاب الذي كان الامام السجاد عليه السلام يتوجه فيه الى اشخاص معروفين، كان هناك نوع آخر من الخطاب الموجّه إلى مجموعة خاصّة لا تُعرف هويّتها. ولكن من الواضح أنّه كان موجّهًا إلى مجموعة من الّذين يُخالفون النّظام الحاكم. فمن يُمكن أن يكون هؤلاء؟ هذه الخطابات وإن لم يُعلم منها بالتّحديد من هي تلك الفئة المخاطَبة، ولكن من الواضح أنّها لفئة مخالفة للنّظام الحاكم، وأفرادها هم في الواقع من أتباع الإمام عليه السلام ومن المعتقدين بحكومة أهل البيت عليهم السلام.

 

ولحسن الحظّ، إنّنا نجد في كتاب تحف العقول نموذجًا لهذا النّوع من الكلمات الصّادرة عن الإمام السجّاد عليه السلام (وذلك لأنّنا لا نجد في غيره من الكتب موارد أخرى من هذا النوع رغم أنّ هناك الكثير في حياة الإمام السجّاد عليه السلام، ولكن على أثر الحوادث المختلفة الّتي جرت في ذلك العصر من القمع والتنكيل والاضطهاد وقتل الأصحاب زالت تلك الآثار وبقي القليل منها).

 

يبدأ الخطاب التّابع لهذا النّوع الثاني هكذا: "كفانا الله وإيّاكم كيد الظالمين وبغي الحاسدين وبطش الجبّارين" .

 

ويُعلم من هذا البيان أنّ الإمام والجمع الحاضر مهدّدون من قِبَل السلطات الحاكمة، وأنّ المسألة ترتبط بمجموعة خاصّة: المؤمنين بأهل البيت عليهم السلام، ولذلك جاء الخطاب بصيغة "يا أيّها المؤمنون"، خلافًا للنّوع الأوّل حيث يستعمل "يا أيّها النّاس" أو "يا ابن آدم"، وذلك لأنّ الخطاب موجّه إلى المؤمنين في الحقيقة بأهل البيت وأفكار أهل البيت عليهم السلام.

 

والدّليل الآخر الواضح جدًّا هو عندما يقول عليه السلام : "أيّها المؤمنون لا يفتننّكم الطواغيت وأتباعهم من أهل الرغبة في الدنيا، المائلون إليها المفتونون بها، المقبلون عليها" .

 

فالمقصد الأصليّ من الكلام هو حفظ هؤلاء المؤمنين وبناء الكادر اللازم للمستقبل. ومن الواضح أنّه على أثر الصّراع الشّديد في الخفاء، ما بين أتباع الأئمّة عليهم السلام وأتباع الطواغيت، فإنّ أتباع الأئمّة عانوا من الحرمان الكبير والخطر الأكبر الّذي يُهدّد المجاهدين وهو التوجّه إلى الرفاهية، هذه الرفاهية الّتي لن تجرّهم سوى إلى ترك الجهاد.

 

لقد كان الإمام عليه السلام يؤكّد كثيرًا على هذه النقطة، ويُحذّر النّاس من حياة التّرف في هذه الدنيا المتلألئة الكاذبة الخدّاعة الّتي لن تؤدّي سوى إلى التقرّب من الطواغيت. لهذا نجد في هذا البيان، وفي العديد من كلمات الإمام السّجّاد عليه السلام، وفي الروايات القصيرة الّتي نُقلت عنه، تأكيدًا على هذا الأمر.

 

ماذا يعني التّحذير من الدنيا؟ إنّه يعني حفظ النّاس من الانجذاب نحو المترفين والإيمان بهم وتمييزهم بحيث تقلّ حدّة مواجهة النّاس لهم. وهذا النّوع من الخطابات موجّه للمؤمنين، أمّا في الخطاب المتوجّه إلى عامّة النّاس، فقلّما نجد مثل هذا النّوع. ففي خطاب عامّة النّاس، كثيرًا ما يظهر: أيّها النّاس التفتوا إلى الله، إلى القبر والقيامة، إلى أنفسكم والغد. فما هو هدف الإمام عليه السلام من هذا النوع الثاني من الخطاب؟ المقصود هو بناء الكادر.

 

فهو عليه السلام يريد أن يصنع من المؤمنين كوادر ملائمة للمرحلة، ولهذا يُحذّرهم من الانجذاب نحو أقطاب القدرة والرّفاهية الكاذبة. ويُكرّر ذكر النّظام الحاكم خلافًا للنوع الأوّل من الكلمات، كما يقول مثلاً: "وإنّ الأمور الواردة عليكم في كلّ يوم وليلة من مظلمات الفتن وحوادث البدع وسنن الجور وبوائق الزمان وهيبة السلطان ووسوسة الشيطان" .

 

وهنا نجد أنّ الإمام مباشرة بعد ذكر هيبة السّلطان وقدرته يذكر وسوسة الشّيطان، يريد بذلك أن يلفت، وبكلّ صراحة، النّظرَ إلى حاكم ذلك الزّمان ويضعه إلى جانب الشّيطان. وفي تتمّة الكلام جملة لافتة ومهمّة جدًّا لذلك أنقلها، فهي تحكي عن مطلب كُنتُ قد ذكرته سابقًا: "لتثبّط القلوب عن تنبهها وتذهلها عن موجود الهدى ومعرفة أهل الحقّ" . تلك الهداية الموجودة الآن في المجتمع. فهذه الأحداث الّتي ترد على الإنسان في حياته في الليل والنّهار ـ في عصر القمع ـ تمنع القلوب من تلك النيّة والتوجّه والدافع والنشاط المطلوب للجهاد.


 
فالإمام السجّاد عليه السلام يعظهم بالأسلوب السّابق نفسه، "وإيّاكم وصحبة العاصين ومعونة الظّالمين" فهو يُحذّرهم من مجالسة أهل المعاصي. من هم أهل المعاصي؟ أولئك الذين جُذبوا لنظام عبد الملك الظالم. الآن، حاولوا أن تتصوّروا شخصية الإمام السجّاد وأن تكوّنوا تصوّرًا عنه عليه السلام. هل ما زال ذلك الإمام المظلوم الصّامت المريض الّذي لا شأن له بالحياة؟ كلّا، فالإمام هو الّذي كان يدعو مجموعة من المؤمنين والأصحاب ويُحذّرهم، بهذه الصّورة الّتي ذكرناها من التقرّب إلى الظلَمة ونسيان المجاهدة، ويمنعهم من الانحراف عن هذا الطريق، وكان يحفّزهم ويُشحنهم بالنشاط، ويدفعهم من أجل أن يكونوا مؤثّرين في إيجاد الحكومة الإسلاميّة.

 

من جملة الأشياء الّتي أراها جليّة وشديدة الأهميّة في هذا القسم من كلمات الإمام السّجاد عليه السلام، تلك الكلمات الّتي يُذكّر فيها بتجارب أهل البيت عليهم السلام الماضية. ففي هذا القسم يُشير الإمام عليه السلامإلى تلك الأيّام الّتي مرّت على النّاس من قِبَل الحكّام الجائرين، مثل معاوية ويزيد ومروان، ووقائع مثل الحرّة وعاشوراء، وشهادة حجر بن عديّ ورشيد الهجريّ، وعشرات الحوادث المهمّة والمعروفة والّتي مرّت على أتباع أهل البيت طيلة الأزمان الماضية واستقرّت في أذهانهم. ويريد الإمام عليه السلام أن يحثّ أولئك المخاطَبين من خلال ذكر تلك الحوادث الشّديدة، على التحرّك والثورة. والتفتوا الآن إلى هذه الجملة: "فقد لعمري استدبرتم من الأمور الماضية في الأيّام الخالية من الفتن المتراكمة والانهماك فيها ما تستدلّون به على تجنّب الغواة" .

 

أي إنّكم تستحضرون تلك التّجارب وتعلمون ماذا سيفعل بكم أهل البغي والفساد ـ وهم حكّام الجور ـ عندما يتسلّطون عليكم. ولذلك يجب عليكم أن تتجنّبوهم وتواجهوهم. وفي هذا الخطاب يطرح الإمام مسألة الإمامة بصورة صريحة، أي قضيّة الخلافة والولاية على المسلمين والحكومة على النّاس وإدارة النّظام الإسلاميّ. هنا يُبيّن الإمام السجّاد عليه السلام قضيّة الإمامة بالصّراحة، في حين أنّه في ذلك الزّمن لم يكن ممكنًا طرح مثل هذه المطالب على العامّة. ثم يقول عليه السلام : "فقدّموا أمر الله وطاعته وطاعة من أوجب الله طاعته".

 

وهنا يُعيّن الإمام فلسفة الإمامة عند الشّيعة والإنسان الّذي يجب أن يُطاع بعد الله. ولو فكّر النّاس في ذلك الوقت بهذه المسألة لعلموا بوضوح أنّه لا يجب طاعة عبد الملك، لأنّه من غير الجائز أن يوجب الله طاعة عبد الملك، ذلك الحاكم الجائر بكلّ فساده وبغيه. وبعد أن يُقدّم الإمام هذه المسألة يتعرّض لردّ شبهة مقدّرة فيقول: "ولا تقدّموا الأمور الواردة عليكم من طاعة الطّواغيت وفتنة زهرة الدنيا بين يدي أمر الله وطاعته وطاعة أولي الأمر منكم" . فالإمام عليه السلام في هذا القسم من كلمته يعرض بصراحة لقضية الإمامة.

 

ففي هذا الخطاب والخطاب السّابق يُركّز الإمام عليه السلام على مسألتين أساسيّتين من المسائل الثلاث الّتي أشرنا إليها سابقًا.

 

الأولى: إعادة تدوين وتجديد الفكر الإسلاميّ والمعتقدات الإسلاميّة وإحياؤها في أذهان النّاس والحثّ على تعلّمها.

 

والأخرى: البعد السياسيّ لولاية الأمر أي قضيّة الحكومة وقيادة النّظام الإسلاميّ.

 

وعندما يُعرّف الإمام هاتين المسألتين للنّاس في ذلك الزّمن فإنّه يقوم في الواقع بتعريف النّظام العلويّ والنّظام الإسلاميّ الإلهيّ.

 

نوعٌ آخر من كلمات الإمام السّجّاد عليه السلام وهو أهمّ من الكلمتين السابقتين. ومن خلاله يدعو الإمام بصراحة النّاس إلى ضرورة إيجاد التشكيلات الإسلاميّة الخاصّة. وبالطبع فإنّ هذه الدعوة موجّهة إلى أولئك الّذين يتّبعون أهل البيت عليهم السلام، وإلّا لو كانت إلى غيرهم من عامّة النّاس لأُفشيت وأدّت إلى إيذاء الإمام عليه السلام وتعرّضه للضغوط الصعبة، وبحمد الله فإنّنا نجد نموذجًا لهذا النّوع من الكلمات في "تحف العقول" .

 

يبدأ الإمام بهذه العبارة: "إنّ علامة الزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة، تركهم كلّ خليط وخليل ورفضهم كلّ صاحب لا يريد ما يريدون" . وهذا تصريح بالدعوة إلى إيجاد تشكيلات شيعيّة.


 
فهو عليه السلام يُعلّمهم بأنّ عليهم الابتعاد عن أولئك الّذين يُخالفونهم في الدافع ولا يتّبعون الحكومة العلويّة وحكومة الحقّ.. 

 

وهناك نوعٌ آخر من كلمات الإمام عليه السلام لا توجد فيه تلك المطالب الكليّة الّتي أشرنا إليها، مثل رسالة الحقوق. للإمام السجّاد عليه السلام رسالة مفصّلة هي بحجم رسالةٍ حقيقية بحسب اصطلاحنا، وهي رسالة كتبها الإمام لأحد أصحابه يذكر فيها حقوق الأفراد والإخوان على بعضهم بعضًا، ويذكر فيها أيضًا حقّ الله عليك، وحقّ أعضائك وجوارحك، وحقّ العين واللسان واليد والأذن... كما يذكر حقّ حاكم المجتمع الإسلاميّ وحقّك عليه، وحقّك على جيرانك، وحقّك على أسرتك. لقد ذكر كلّ هذه الأنواع من الحقوق الّتي تُنظّم العلاقات بين الأفراد في النّظام الإسلاميّ. فالإمام وبهدوءٍ تامّ ومن دون أن يأتي على ذكر الحكومة والجهاد والنّظام المستقبليّ، قد ذكر في هذه الرسالة أسس علاقات النّظام المقبل بحيث إنّه لو جاء يوم وتحقّق نظام الحكومة الإسلاميّة في عصر الإمام السجّاد نفسه ـ وهو بالطبع احتمالٌ بعيد ـ أو في العصور اللاحقة فهو يُعرّف النّاس إلى الإسلام الّذي ستُحقّق حكومته في المستقبل، ليلقي في أذهانهم مسبقًا طبيعة العلاقات الّتي تربط بينهم في ذلك النّظام. هذا نوعٌ آخر من كلمات الإمام السجّاد الّتي تلفت الأنظار كثيرًا.

 

ونوع آخر نجده في الصحيفة السجّادية، وهذا الأمر يتطلّب بحثًا مفصّلًا ربّما هو عمل أولئك الّذين يعملون في هذا المجال. فالصّحيفة السجّادية تتضمّن مجموعة من الأدعية في كافّة المجالات الّتي ينبغي أن يلتفت إليها الإنسان اليقظ والفطن. وأكثرها في الروابط والعلاقات القلبية والمعنوية للإنسان. في هذه الأدعية والمناجاة، توجد مطالب معنوية وتكاملية كثيرة لا حصر لها. والإمام عليه السلام في ثنايا هذه الأدعية، وبلسان الدّعاء، يُحيي في أذهان النّاس الدوافع نحو حياة إسلاميّة ويوقظها. إحدى النتائج الّتي يُمكن أن تحصل من الأدعية، وقد ذكرناها مراراً، هي إحياء الدوافع السليمة والصحيحة في القلوب. فعندما ندعو: "اللهمّ اجعل عواقب أمورنا خيراً".

 

فإنّ هذا الدّعاء يُحيي في القلوب ذكر العاقبة ويدفع أصحابها للتفكّر في المصير. فقد يغفل الإنسان أحيانًا عن عاقبته، ويعيش ولا يلتفت إلى مصيره. فإذا تلا هذا الدعاء يستيقظ فجأة إلى ضرورة تحسين عاقبته. أمّا كيف يتمّ ذلك فهذا بحثٌ آخر. فقط أردت أن أضرب مثلاً حول الدور الصادق للدعاء. وهذا الكتاب المليء بالدوافع الشريفة للأدعية كافٍ لإيقاظ المجتمع وتوجيهه نحو الصلاح. وإذا تجاوزنا ذلك، وجدنا روايات قصيرة وعديدة نُقلت عن الإمام السجّاد عليه السلام. منها ما ذكرته سابقاً: "أوَلا حرٌّ يدع هذه اللماظة لأهلها" . انظروا كم هو مهمٌّ هذا الحديث. فالزخارف الدنيويّة والزبارج كلّها ما هي سوى بقايا لعاب الكلب التي لا يتركها إلا الحرّ. وكلّ أولئك الّذين يدورون في فلك عبد الملك إنّما يريدون تلك اللماظة. وأنتم أيها المؤمنون لا تنجذبوا إليها. ونجد الكثير من مثل هذه الكلمات الثورية والملفتة في خطب الإمام السجّاد عليه السلام. وسوف نصل إليها فيما بعد إن شاء الله. لقد كان الإمام السجّاد عليه السلام شاعرًا. وشعره يحتوي على معانٍ مهمّة سوف نذكرها لاحقاً إن شاء الله.

(مجلة باسدار اسلام، 10)

 


المصدر: كتاب إنسان بعمر 250 سنة، للامام الخامنئي، الفصل الثامن: الإمام السجاد (ع)

2025-04-21 | 7 قراءة