إنسان بعمر 250 سنة | بعثة النبي.. النّظام النموذجيّ للحكم 03

إنّ سيرة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في مرحلة السنوات العشر لحاكميّة الإسلام في المدينة، تُعدّ من ألمع عهود الحكم طيلة التاريخ البشريّ، ولا نقول ذلك جزافًا، وإنّما يجب التعرّف إلى هذا العهد القصير والمليء بالنشاط والّذي له تأثيرٌ خارقٌ على تاريخ البشريّة. إنّ المرحلة المدنيّة هي الفصل الثاني من عصر رسالة النبيّ، الّذي امتدّ لـ 23 سنة. الفصل الأوّل، الّذي كان مقدّمةً للفصل الثاني، كان عبارة عن 13 سنة في مكّة. أمّا السنوات العشر الّتي قضاها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة فهي تُمثّل سنيّ إرساء قواعد النّظام الإسلاميّ وبناء أنموذج الحكم الإسلاميّ لجميع أبناء البشريّة على مرّ التاريخ الإنسانيّ في مختلف الأعصار والأمصار. وهذا الأنموذج الكامل، لا نجد له نظيرًا في أيّ حقبة أخرى. وبمقدورنا من خلال إلقاء نظرة على هذا الأنموذج الكامل تحديد المعالم الّتي بها ينبغي للبشر وللمسلمين الحكم على الأنظمة وعلى النّاس.

 

لقد كانت غاية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من هجرته إلى المدينة هي مقارعة الواقع السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ بظلمه وطاغوتيّته وفساده الّذي كان مهيمنًا على الدنيا آنذاك، ولم يكن الهدف مكافحة كفّار مكّة فحسب، بل كانت القضيّة ذات بعد عالميّ أيضًا. كان النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يتعقّب هذا الهدف، فكان يغرس بذور الفكر والعقيدة أينما وَجد الأرضيّة المساعدة لذلك، على أمل أن تنبت تلك البذور في الوقت المناسب. وكانت غايته من ذلك إيصال رسالة الحريّة والنهوض وسعادة الإنسان إلى كافّة القلوب. وذلك يتعذّر إلاّ عن طريق إقامة النّظام النموذجيّ القدوة. لذلك فقد جاء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة لإقامة مثل هذا النّظام النموذجيّ، لكن إلى أيّ مدى تسعى الأجيال اللاحقة لمواصلة ذلك والاقتراب من هذا النّموذج، فذلك منوطٌ بهممها ومساعيها.


 
فالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يبني النّموذج ويُقدّمه للبشريّة والتّاريخ. والنّظام الّذي شيّده النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان له الكثير من المعالم، أبرزها وأهمّها سبعة:


المعْلَم الأوّل - الإيمان: فالدّافع الحقيقيّ للنّظام النّبويّ إلى الأمام هو الإيمان المنبثق من قلوب النّاس وعقولهم والذي يأخذ بأيديهم وكلّ كيانهم نحو طريق الصّواب. إذًا، المعلم الأوّل يتمثّل في نفخ روح الإيمان وتقويته وترسيخه وتغذية أبناء الأمّة بالمعتقد والفكر السليمين، وهذا ما باشره النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في مكّة ورفع رايته في المدينة بكلّ اقتدار.

 

المعْلَم الثاني - العدل والقسط:

فمنطلق العمل كان يقوم على أساس العدل والقسط وإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه من دون أدنى مداهنة.

 

المعْلَم الثالث - العلم والمعرفة:

فأساس كلّ شيء في النّظام النبويّ هو العلم والمعرفة والوعي واليقظة، فهو لا يُحرّك أحدًا في اتّجاهٍ معيّن حركةً عمياء، بل يحوّل الأمّة عن طريق الوعي والمعرفة والقدرة على التشخيص إلى قوّة فعّالة لا منفعلة.

 

المعْلَم الرابع - الصفاء والأخوّة:

فالنّظام النبويّ ينبذ الصّراعات التي تُغذّيها الدّوافع الخُرافيّة والشّخصيّة والمصلحيّة والنّفعيّة ويُحاربها. فالأجواء هي أجواء تتّسم بالصّدق والأخوّة والتآلف والحميميّة.

 

المعْلَم الخامس - الصّلاح الأخلاقيّ والسلوكيّ:

فهو يُزكّي النّاس ويُطهّرهم من رذائل الأخلاق وأدرانها، ويصنع إنسانًا خلوقًا ومزكّىً ﴿وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ ، فالتّزكية هي أحد المرتكزات الأساس. أي إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان يعمل على أبناء الأمّة فردًا فردًا على أساس التّربية وبناء الإنسان.

 

المعْلَم السادس - الاقتدار والعزّة:

فالمجتمع والنّظام النبويّ لا يتّسمان بالمذلّة والتسوّل ومدّ يد الحاجة إلى هذا وذاك، بل يتميّزان بعزّتهما واقتدارههما وعزمهما، فهما متى ما شخّصا موطن صلاحهما سعيا إليه وشقّا طريقهما إلى الأمام.

 

المعْلَم السابع - العمل والنّشاط والتّقدّم المطّرد:

فلا مجال للتّوقّف في النّظام النبويّ، بل الحركة والعمل والتقدّم بنحوٍ منظّم. ولا يحدث أن يقول أبناؤه إنّ كلّ شيء قد تمّ، فلنركن إلى الدّعة والرّاحة! وهذا العمل ــ بطبيعة الحال ــ مبعث لذّة وسرور وليس مدعاة للكسل والملل والإرهاق، بل هو عمل يمنح الإنسان النّشاط والطّاقة والاندفاع.

 


المصدر: كتاب إنسان بعمر 250 سنة، للامام الخامنئي، الفصل الأول: النبيّ الأعظم (ص)

2025-04-21 | 6 قراءة