
لقد حدّد النبي الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم موقفه منذ اللحظة الأولى لدخوله المدينة، فعندما دخلت النّاقة، التي كان يركبها النبيّ، يثرب أحاط بها النّاس. وكانت يثرب يومها مقسّمة إلى أحياء تضمّ بيوتًا وأزقّة ومتاجر، يعود كلٌّ منها إلى واحدة من القبائل التّابعة إمّا للأوس أو للخزرج... كانت الناقة تمرّ من أمام قلاع هذه القبائل فيخرج كبارها ويأخذون بركاب النّاقة منادين: إلينا يا رسول الله، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "دعوا الناقة فإنّها مأمورة" . لكنّ كبار القوم وأشرافهم وشيوخهم وشبابهم اعترضوا ناقة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قائلين: انزل هنا يا رسول الله، فالدّار دارك، وكلّ ما لدينا في خدمتك، لكنّه صلى الله عليه وآله وسلم، كان يقول لهم: "دعوا الناقة فإنّها مأمورة". وهكذا طوت الناقة الطريق حيًّا بعد حيّ، حتّى وصلت إلى حيّ بني النجّار، الّذين تنتمي إليهم أمّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وباعتبارهم أخوال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم جاؤوه وقالوا: يا رسول الله! إنّ لنا بك لقرابة فانزل عندنا، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : "دعوا الناقة فإنّها مأمورة"، فانطلقت الناقة حتّى حطّت رحالها في أكثر أحياء المدينة فقرًا، فمدّ النّاس أعناقهم ليعرفوا مَنْ صاحب الدار الّتي حطّت عندها الناقة، فإذا به أبو أيّوب الأنصاريّ، أفقر أهل المدينة أو أحد أفقرهم.
عمد أبو أيّوب الأنصاريّ وعياله الفقراء المعوزون إلى أثاث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فنقلوه إلى دارهم، وحلّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ضيفاً عليهم ، فيما رُدّ الأعيان والأشراف وأصحاب النفوذ وذوو الأنساب وأمثالهم، أي أنّه حدّد موقعه الاجتماعيّ، فاتّضح من خلال ذلك عدم تعلّق هذا الرجل بالثّروة والنسب القبليّ والزعامات القبلية والانتماء الأُسريّ والعائليّ وعدم ارتباطه بالمتحايلين الوقحين ولن يكون كذلك. فهو صلى الله عليه وآله وسلم حدّد طبيعة سلوكه الاجتماعيّ منذ اللحظة الأولى، وأيًّا من الفئات يُساند، ولأيٍّ من الطبقات ينحاز، ومَنْ هم الّذين سينالون القسط الأوفر من فائدة وجوده. فالجميع كانوا ينتفعون من وجود النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وتعاليمه، بيد أنّ الأكثر حرمانًا كان أكثر انتفاعًا منه، دافعهم في ذلك هو التعويض عن حرمانهم.
كانت قبال دارة أبي أيّوب الأنصاريّ قطعة أرض متروكة فسأل صلى الله عليه وآله وسلم عن صاحبها، فقيل إنّها ليتيمين، فدفع لهما ثمنها واشتراها ثمّ أمر ببناء مسجد عليها، كان بمثابة مركز سياسيّ عباديّ اجتماعيّ وحكوميّ ومركز يتجمّع فيه النّاس، حيث اقتضت الضرورة بناء مركز يُمثّل المحورية، ومن هنا تمّت المباشرة ببناء المسجد. ولم يطلب صلى الله عليه وآله وسلم قطعة أرض من أحد أو يستوهبها، بل اشتراها بأمواله، ورغم عدم وجود محامٍ عن هذين اليتيمين فإنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم راعى الدقّة في أداء حقوقهما كاملة تامّةً كالأب والمدافع عنهما.
وعندما باشروا ببناء المسجد، كان النبيّ نفسه صلى الله عليه وآله وسلم من أوائل الأشخاص بل أوّل شخص جاء وحمل بالمعول وباشر بحفر أرض المسجد. ولم يكن عمله هذا استعراضيًّا، بل بالفعل باشر بالعمل وكان يتصبّب عرقًا. كان عمله بحيث أنّ بعض الأشخاص الذين جلسوا جانبًا، قالوا: أنجلس والرسول يعمل هكذا؟! فلنذهب ونعمل، فجاؤوا وانهمكوا في العمل حتّى شيّدوا المسجد خلال برهة وجيزة. وبذلك أثبت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم - ذلك القائد العظيم والمقتدر - أنّه لا يرى أيّ حقّ لشخصه، فإذا ما كان هنالك عمل فلا بدّ أن تكون له مساهمة فيه.
بعد ذلك، وضع صلى الله عليه وآله وسلم، الأطر الإدارية والسّياسيّة لذلك النّظام. ولو أنّ المرء ألقى نظرة على التطوّر الّذي خطاه بذكاء وفطنة، لأدرك أيّ عقل وفكر ودقّة وحنكة تقف وراء تلك العزيمة القاطعة والإرادة الصلبة الّتي لا يمكن تحقّقها ظاهرًا إلاّ برفدٍ من الوحي الإلهيّ. وحتّى يومنا هذا، إنّ الّذين يحاولون تتبّع وقائع تلك السنوات العشر خطوةً خطوة يعجزون عن استيعاب أيّ شيء. وإذا ما حاول المرء دراسة كلّ واقعة على حدة فإنّه لا يدرك منها شيئًا، بل عليه أن يُدقّق النّظر ويلحظ تسلسل الأعمال وكيفية إنجاز كلّ تلك المهامّ بتدبيرٍ ووعيٍ وحساباتٍ دقيقة.
تمثّلت الخطوة الأولى في إرساء الوحدة.
لم يكن جميع أهل المدينة مسلمين، لقد كان أكثرهم كذلك، إلّا أنّه بقيت فيما بقيت قلّة قليلة منهم غير مسلمة. علاوة على ذلك، كانت ثلاث من القبائل المهمّة لليهود ـ بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة ـ تقطن المدينة، أي في القلاع الخاصّة بهم المحاذية للمدينة. كانت هذه القبائل قد جاءت إلى المدينة قبل قرن أو قرنين من ذلك التاريخ، وقصّة مجيئهم إلى المدينة هي قصّة طويلة لها تفاصيلها. وعند دخول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة كان لهؤلاء اليهود ثلاث مزايا:
أوّلها: سيطرتهم على الثروات الأساس في المدينة، وعلى أهمّ مزارعها وتجارتها ومنافعها، وعلى أهمّ صناعاتها الّتي تدرّ الأرباح وهي صناعة الذهب وغيرها. وكان أغلب أهل المدينة يرجعون إليهم لسدّ حوائجهم والاستقراض منهم وتسديد الربا إليهم، أي أنّهم كانوا يقبضون على كلّ شيء من الناحية المالية.
والثانية: تفوّقهم على أهل المدينة من الناحية الثقافيّة، فهم كانوا أصحاب كتاب وعلى اطّلاع على مختلف المعارف والعلوم الدينيّة والمسائل الّتي تجهلها عقول أهل المدينة ذات الطّبيعة شبه البدائيّة. من هنا كانت لهم الهيمنة الفكريّة. وإذا ما أردنا وصفهم وفقًا للمصطلحات المعاصرة فبإمكاننا القول بأنّهم كانوا يُشكّلون طبقة مثقّفة، لذلك كانوا يستحمقون أهل المدينة ويسخرون منهم ويُحقّرونهم. بالطّبع، كانوا يتصاغرون في المواطن التي كانوا يدركون فيها الخطر أو عند الضرورة، غير أنّ التفوّق كان لهم في الحالات الطبيعية.
الثالثة: اتّصالهم بالمناطق النائية عن المدينة، فلم يتقوقعوا داخل حدود المدينة. لقد كانوا يُمثّلون واقعًا قائمًا في المدينة، لذا كان على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أن يضعهم في الحسبان، فأوجد صلى الله عليه وآله وسلم ميثاقًا جماعيًّا عامًّا. ولدى ورود النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم المدينة اتّضح أنّ قيادة مجتمعها منحصرةٌ به صلى الله عليه وآله وسلم من دون أن يبرم عقدًا أو يطلب شيئًا من النّاس أو أن يدخل في مباحثات مع أحد، أي إنّ الشّخصيّة والعظمة النبويّة أخضعت الجميع لها بشكلٍ طبيعيّ. لقد تجلّت قيادته وجعلت الجميع يتحرّكون ويُبادرون حول محوريّتها.
لقد كتب النبيّ ميثاقًا، وصار موضع قبول من قِبل الجميع. كان الميثاق شاملًا للتفاعل الاجتماعيّ والمعاملات والنزاعات والديات وعلاقة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بمعارضيه وموقفه من اليهود ومن غير المسلمين، كلّ ذلك كان مدوّنًا ومفصّلًا ولعلّه قد احتلّ صفحتين أو ثلاث صفحات كبيرة من كتب التّاريخ القديمة الكبرى.
الخطوة الثانية كانت في غاية الأهميّة وهي إشاعة روح الأخوّة.
لقد كانت الأرستقراطيّة والعصبيّات الخُرافية والتكبّر القبليّ وانفصال الشّرائح المختلفة للنّاس عن بعضها البعض، أبرز البلاءات الّتي كانت تُعاني منها المجتمعات الجاهليّة العربيّة المتعصّبة يومذاك. وبإشاعته للأخوّة، سحق النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هذه النعرات تحت قدميه. فقد آخى بين رئيس القبيلة وبين من هو في مستوًى دانٍ أو متوسّط. وهؤلاء بدورهم ارتضوا هذه الأخوّة طائعين. ووضع السّادة والأشراف إلى جانب العبيد من المسلمين والعتقاء، وبذلك قضى على العوائق في طريق الوحدة الاجتماعيّة.
وعندما أراد صلى الله عليه وآله وسلم اتّخاذ مؤذّن لمسجده، كان ذوو الحناجر الجهوريّة والهندام الجميل والشخصيّات المشهورة، من الكثرة بمكان، لكنّه اختار من دونهم بلالًا الحبشيّ الّذي كان يفتقد إلى الجمال والصوت الحسن والشّرف العائليّ والنَّسبيّ. فالمناط كان الإسلام والإيمان والجهاد والتّضحية في سبيل الله لا غير. لاحظوا كيف أنّه صلى الله عليه وآله وسلم حدّد القيم على صعيد العمل، فقبل أن يترك كلامه بصماته على القلوب، كانت أعماله وسيرته وهديه يؤثّرون في القلوب.
المصدر: كتاب إنسان بعمر 250 سنة، للامام الخامنئي، الفصل الأول: النبيّ الأعظم (ص)