إنسان بعمر 250 سنة | تثبيت النّظام الإسلاميّ 07

إنّ واقعة غدير خم هي واقعة مصيريّة ومهمّة جدًّا في تاريخ الإسلام. ويُمكن النّظر إليها من حيثيّتين أو بعدين: الأوّل يختصّ بالشّيعة، والثاني يرتبط بجميع الفرق الإسلاميّة. وبالنظر إلى البعد الثاني لهذه الواقعة، يجب إيجاد هذه الرّوحيّة وهذا الشّعور عند جميع مسلمي العالم وهو أنّ عيد الغدير الّذي يُذكّر بهذه الواقعة الكبرى ليس مختصًّا بالشّيعة.

 

البعد الأوّل لهذه الواقعة، وكما ذكرنا، يختصّ بالشّيعة، لأنّ أمير المؤمنين عليه السلام في هذه الواقعة قد نُصّب للخلافة من قِبَل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. وفي ذلك اليوم وفي تلك الواقعة سُئل رسول الله: يا رسول الله هل إنّ إعلانك هذا هو من نفسك أو من الله؟ فقال: "من الله ورسوله" ، أي إنّه أمرٌ إلهيّ وكذلك هو منّي. فالشّيعة تُعظّم هذه الواقعة من هذه الجهة، لأنّ اعتقادهم بأنّ الخلافة المباشرة هي لأمير المؤمنين عليه السلام ترتبط بهذه الواقعة أكثر من سائر الدلائل. بالطّبع، إنّ البحث في مجال الاستنباط والاستدلال على هذه الواقعة في الكتب الكثيرة والمتنوّعة على مرّ تاريخ الإسلام، قد استمرّ من اليوم الأوّل وإلى يومنا هذا. ولا أنوي هنا أن أُضيف شيئًا على ما كتبته وذكرته آلاف الألسنة والأقلام بشأن هذا المطلب.

 

وأمّا البعد الثاني لهذه الواقعة والّذي لا يقلّ أهمّية عن البعد الأوّل، فهو أمرٌ مشتركٌ بين الشّيعة والسنّة. وسوف أُفصّل فيه قليلاً.

 

ما جرى هو أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي السّنة العاشرة للهجرة، توجّه إلى الحجّ مع جمعٍ من مسلمي المدينة وسائر مناطق الجزيرة العربية الّتي أسلمت. وفي هذا السفر، استفاد النبيّ الأكرم من حجّ بيت الله في بيان المفاهيم الإسلاميّة سواء على المستوى السياسيّ أم العسكريّ أم الأخلاقيّ أم العقائديّ، استفادةً كاملة وجديرة بالذّكر، وقد نُقل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطبتان إحداهما، على الظاهر، في اليوم العاشر(من ذي الحجة) أو قريبًا منه، والأخرى في نهاية أيّام التشريق . وعلى ما يبدو أنّهما كانتا خطبتين لا خطبةً واحدة. في هاتين الخطبتين، بيّن رسول الله جميع المسائل الأساس الّتي ينبغي أن يلتفت إليها المسلمون بعمق وهي في الأساس قضايا سياسيّة. ويُدرك الإنسان جيّدًا كم أنّ أولئك الّذين يفصلون بين الحجّ والقضايا السّياسيّة في العالم الإسلاميّ اليوم، ويتصوّرون أنّ الحجّ ينبغي أن يكون عبادةً فقط، بالمعنى الرائج والعاديّ، وأنّ كلّ عملٍ سياسيّ هو عملٌ خارج عن نطاق الحجّ، كم أنّهم غرباء وبعيدون عن تاريخ الإسلام وعن سيرة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.


 
ما بيّنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هاتين الخطبتين من مسائل، وقد ذُكرت في بعض كتب الشّيعة والسنّة بالإجمال، هي هذه. لقد تحدّث أوّلًا عن الجهاد، وطرح قضيّة الجهاد ضدّ المشركين والكفّار، وأعلن أنّ الجهاد سيستمرّ حتّى تنتشر كلمة لا إله إلا الله في كلّ العالم. وبشأن الوحدة الإسلاميّة بيّن رسول الله في هذه الخطب عدّة مطالب، وصرّح أنّ على المسلمين أن لا يقتتلوا فيما بينهم، وأكّد على وحدة المسلمين وانسجامهم. وفيما يتعلّق بالقيم الجاهليّة صرّح بكلامٍ واضحٍ، أنّ هذه القيم بنظر الإسلام هي لا شيء ولا قيمة لها "ألا إنّ كلّ مالٍ ومأثرةٍ ودمٍ يُدّعى تحت قدَميَّ هاتين" ، فقد تبرّأ من القيم الجاهليّة بالكامل. وكلّ الخلافات الماليّة الّتي كانت بين المسلمين من أيّام الجاهليّة، كأن يكون أحدهم قد أقرض أخاه وله عليه ربا، فإنّه أصبح منسوخًا، "ألا وكلّ ربا كان في الجاهليّة فهو موضوع وأول موضوع منه ربا عمّي العبّاس" ، الّذي كان قد أقرض في الجاهليّة كثيرين وله عليهم ربا، فقد أعلن النبيّ أنّه رفعه ونسخه. وقد أكّد على قيمة التقوى كأعلى قيمة إسلامية، وصرّح أنّه لا فضل لأحدٍ على أحد إلا بالتّقوى. وبيّن ضرورة النصيحة لأئمّة المسلمين، أي التدخّل في القضايا السّياسيّة وإبداء الرأي للحكّام والأئمّة وجعل ذلك كفريضة، حيث يجب على جميع المسلمين أن يُسْدوا للحكّام الإسلاميّين نصيحتهم وآراءهم النافعة.
 

ضمانة النّظام الإسلامي

لقد بيّن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في هاتين الخطبتين المسائل السّياسيّة والاجتماعيّة الأساس للعالم الإسلاميّ. وفي هاتين الخطبتين ذكر حديث الثقلين أيضًا، وهو حديث قال فيه: "إنّي قد تركتُ فيكم أمرين (نفيسين) لن تضلّوا بعدي ما إن تمسّكتم بهما كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإنّ اللطيف الخبير قد عهد إليّ أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، كهاتين (السبابتين) وجمع بين مسبِّحتيه، ولا أقول كهاتين وجمع بين المسبّحة والوسطى، فتسبق إحداهما الأخرى فتمسّكوا بهما..." .

 

وقد عرض قضية العترة. وبعد إنهاء أعمال الحجّ توجّه مباشرةً إلى المدينة. وأثناء الطريق، وعلى مفترق ثلاثة طرق، حيث كان ينبغي أن تفترق القوافل اليمنيّة عن قوافل المدينة، وقف صلى الله عليه وآله وسلم في محلّةٍ يُقال لها "غدير خم"، وكما نقل الشاهد والحاضر، أنّ الحرارة كانت شديدة إلى درجة أنّه لو وضعوا قطعة لحمٍ على الأرض لشُويت، ففي مثل هذه الحال وقف صلى الله عليه وآله وسلم على مرتفعٍ ونادى في النّاس، وعندما رأى الجميع أعلن قضية الولاية، "من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه"  وأخذ بيد أمير المؤمنين عليه السلام ورفعها حتّى يراها الجميع. وفي رواياتٍ عديدة نُقل أنّه شوهد بياض إبطي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وعليّ بن أبي طالب عليه السلام، عندما رفع يده من أجل أن يظهر الأمر للنّاس جميعًا، هذه هي الواقعة في الإجمال.

 
إنّ البُعد الّذي هو مورد نظري ـ البعد الدّوليّ الإسلاميّ والمتعلّق بالفرق الإسلاميّة الّتي لا تنحصر بالشّيعة ـ هو أنّه لو فرضنا أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الإعلان، الّذي حصل حتمًا وقد صدر عنه هذا الكلام، لو فرضنا أنّه لم يُرد أن يُبيّن أنّ خليفته المباشر هو أمير المؤمنين عليه السلام، فإنّه بالحدّ الأدنى أراد أن يُثبّت الولاء والرّابطة العميقة للمسلمين مع أمير المؤمنين عليه السلام وعترته. والسبب في أنّ النبيّ قرن عترته بالقرآن سواء في خطبة منى أم في حديث الثقلين ـ وعلى ما يبدو أنّ هذا الحديث قد صدر عن النبيّ عدّة مرّات ـ وأيضًا في حديث الغدير وفي هذه الواقعة ــ الّتي يُركّز فيها على أمير المؤمنين عليه السلام وشخصه ـ أنّه أراد أن يُثبّت هذه الرابطة من أجل أن يُظهر للنّاس وعلى مرّ الزمان نماذج كاملة للإنسان الّذي يريده الإسلام ويكون ذلك لجميع الأجيال الآتية. فيجعل النموذج الكامل للإنسان بصورة مجسّمة وعينية بحالاته الواضحة الّتي لا شكّ فيها أمام أعين جميع البشر، وليقول إنّ التربية الإسلاميّة ينبغي أن تكون في هذا الاتّجاه، وإنّ شخصّية الإنسان المسلم هي تلك الشّخصيّة الّتي تجعل غايتها ونموذجها هذا الإنسان الكامل.

 

هؤلاء الّذين كانت طهارتهم وعلومهم وتقواهم وصلاحهم وعبوديتهم لله، واطّلاعهم على القضايا الإسلاميّة، وتضحيتهم وشجاعتهم من أجل تحقّق الأهداف والقيم الإسلاميّة، وإيثارهم واضحٌ بيّنٌ للجميع. لقد تمّ تعريف أمير المؤمنين عليه السلام كأنموذج يمكن للنّاس أن يرتبطوا به سواء كان في ذلك الزّمان أم في الأزمان الآتية. وهنا، وإن لم تتحقّق الخلافة المباشرة عمليًّا إلّا بعد مرور 25 سنة، فإنّه في النّهاية صار خليفة النبيّ، وثبّت مقام إمامته، وقبل به جميع المسلمين، كفردٍ، إمامًا للمجتمع. هذه الخصوصيّة، وهذه الرّابطة الموجودة عند جميع المسلمين مع هذه الشّخصيّة، الّتي يقبل الجميع أنّها خليفة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ـ كلّ ما هنالك أنّ بعض النّاس يقول إنّه الخليفة المباشر وبعض يعتقد بخلاف ذلك، وإنه خليفة بعد 25 سنة ـ هذه الشّخصيّة الّتي يقبل جميع المسلمين بها على أنّها خليفة يجب أن تكون لجميع المسلمين أنموذجًا خالدًا وقدوةً كاملة للإنسان الإسلاميّ. ويجب أن تبقى هذه الرابطة بينه وبين جميع المسلمين وإلى الأبد كرابطة فكريّة واعتقاديّة وعاطفيّة وعمليّة.

 

فمن هذه النّاحية، لا يختصّ أمير المؤمنين عليه السلام بالشّيعة، بل هو لجميع المسلمين. كما أنّ هذا الكلام لا يختصّ بأمير المؤمنين عليه السلام بل يشمل العترة الشّريفة وأئمّة الشّيعة الّذين هم من أولاده، الّذين هم أيضًا من العترة، والّذين يجب أن يبقوا دائمًا كنماذج كاملة للإنسان الإسلاميّ في أعين المسلمين. هذه قضية.

 

وبجعل العترة إلى جانب القرآن وبالإعلان عن ضرورة الارتباط بين المسلمين والعترة، بيّن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في الحقيقة الموقف تجاه كلّ أنواع التّحريف الّذي سيتعرّض له القرآن والانحراف عن المفاهيم القرآنيّة الأساس. فحينما تقوم الأجهزة الجائرة بتحريف المفاهيم الإسلاميّة من أجل منافعها وتُسيء إلى معاني القرآن وتُفسّر القرآن بصورةٍ خاطئة وتُضلّ المسلمين وتحرمهم من فهم الدّين الإسلاميّ، فإنّ ذاك المرجع والمحور والقطب، الّذي ينبغي أن يوعّي النّاس حول الحقيقة والمفاهيم والمعارف الصحيحة ويُنجي النّاس من الضلالة وعليهم أن يستمعوا إليه، هو العترة الطاهرة.

 

وهذا هو الأمر الّذي يُعدّ اليوم بالنسبة للعالم الإسلاميّ ضرورة ومطلبًا لازمًا. يحتاج جميع المسلمين اليوم أن ينهلوا المعارف الإسلاميّة عن طريق أهل بيت النبيّ، دون فرق بين أن يكونوا معتقدين بأنّ الإمامة المباشرة هي لأمير المؤمنين ولأولاده أو لا. وبالطّبع، فإنّ الشّيعة يعتبرون بأنّ العقيدة الحقّة والاستفادة القطعية من هذا الحديث هي الخلافة المباشرة، فهم يعتقدون بذلك ويتمّسكون به. والّذين لا يعتقدون بذلك ولا يتمسّكون به ــ أي الإخوان من أهل السنّة ــ لا ينبغي أن يقطعوا رابطتهم الفكريّة والعقلانيّة والاعتقاديّة والعاطفيّة بالعترة وبأمير المؤمنين عليه السلام. لهذا فإنّ قضية الغدير من هذا البعد الثاني، الّذي هو بعد إيجاد الرّابطة بين عليّ بن أبي طالب وعترة النبيّ من جهة وجميع المسلمين من جهة ثانية، هي قضيّة لجميع المسلمين.

(14/08/1987)
 


المصدر: كتاب إنسان بعمر 250 سنة، للامام الخامنئي، الفصل الأول: النبيّ الأعظم (ص)

2025-04-21 | 7 قراءة