التأويل

1- معنى التأويل:
أ- المعنى اللغوي: الهمزة والواو واللام أصلان: ابتداء الأمر، وانتهاؤه... ومن هذا الباب: تأويل الكلام, وهو عاقبته، وما يؤول إليه, وذلك قوله تعالى:
﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ﴾ . والتأويل من الأَوْل, أي: الرجوع إلى الأصل، ومنه: المَوْئِلُ للموضع الذي يرجع إليه, وذلك هو ردّ الشيء إلى الغاية المرادة منه, علما كان أم فعلاً، ففي العلم نحو قوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ ، وفي الفعل نحو قوله تعالى: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ﴾ , أي: بيانه, الذي غايته المقصودة منه .

ب- المعنى الاصطلاحي: اختلف العلماء والمفسّرون في تحديد المعنى الاصطلاحي للتأويل، على أقوال عدّة ، منها:
 
- التأويل هو التفسير نفسه , وهو المراد من الكلام.
- ولازم هذا القول أن يكون بعض الآيات القرآنية ممّا لا تنال أفهام عامّة الناس المراد من مداليلها اللفظية، وهو خلاف دعوة القرآن إلى التدبّر فيه، وأنّه مُنزَّل من عند الله ليعقله الناس ويفهموه. ومجرّد كون التأويل مشتملاً على معنى الرجوع وكون التفسير فيه شيء من معنى الرجوع, لا يُوجِب كون التأويل هو التفسير.

- التأويل هو المعنى المخالف لظاهر اللفظ .
- ولازم هذا القول إبطال الاحتجاج الواقع في قوله تعالى: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾ , حيث يمكن إرجاع كلّ كلام ظاهره كذب وباطل إلى الصدق والحقّ بالتأويل والصرف عن ظاهره.

- التأويل معنى من معاني الآية، ليس خلاف ظاهر اللفظ، ومرجعه إلى أنّ للآية المتشابهة معانٍ متعدّدة بعضها تحت بعض، منها ما هو تحت اللفظ يناله جميع الأفهام، ومنها ما هو أبعد منه.

- ولازم هذا القول لا يتلاءم مع قوله تعالى في وصف التأويل: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ...﴾ فانّ المعارف العالية والمسائل الدقيقة لا يختلف فيها الأذهان، من حيث التقوى وطهارة النفس، بل من حيث الحدّة وعدمها، وإن كانت التقوى وطهارة النفس معينين في فهم المعارف الطاهرة الإلهية، لكن ذلك ليس على نحو الدوران والعلّيّة, كما هو ظاهر قوله: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ...﴾.

- التأويل ليس من قبيل المعاني المُرادة باللفظ، بل هو الأمر العيني الذي يعتمد عليه الكلام.

ولازم هذا القول، على فرض رجوع الضمير في قوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ 
 
إِلاَّ اللّهُ...﴾ إلى الكتاب, أنّ كلّ أمر خارجي مرتبط بمضمون الكلام حتى مصاديق الأخبار الحاكية عن الحوادث الماضية والمستقبلة يُعدّ تأويلاً للكلام، والحال أنّ مثل هذه الأخبار لا ينحصر علمها بالله تعالى وبالراسخين في العلم. 

وعلى فرض رجوع الضمير إلى خصوص المتشابهات, فإنّ ذلك يؤدّي إلى حصر المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله 
والراسخون في العلم في خصوص آيات الصفات وآيات القيامة. والواقع: أنّ لا وجه لحصر المتشابه الذي لا يعلم تأويله 
في آيات الصفات والقيامة, فإنّ الفتنة والضلال كما توجد في تأويلها يوجد في تأويل غيرها من آيات الأحكام والقصص وغيرهما.

- التأويل هو الحقيقة الواقعية  التي تستند إليها البيانات القرآنية, من حكم، أو موعظة، أو حكمة، وأنّه موجود لجميع الآيات القرآنية محكمها ومتشابهها، وأنّه ليس من قبيل المفاهيم المدلول عليها بالألفاظ، بل هو من الأمور العينية المتعالية من أن يحيط بها شبكات الألفاظ، وإنّما قيّدها الله سبحانه بقيد الألفاظ, لتقريبها من أذهاننا بعض التقريب, فهي كالأمثال تُضرَب ليقرَّب بها المقاصد، وتوضَّح بحسب ما يناسب فهم السامع, كما قال تعالى: ﴿وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ .

 

2- التأويل في القرآن:
وردت مفردة التأويل ستّ عشرة مرّة في القرآن ، وفي جميع هذه الموارد أُرِيدَ بها الحقيقة الواقعية والخارجيّة التي تستند إليها البيانات القرآنيّة، ومن هذه الموارد:
أ- التأويل في قصّة النبي يوسف عليه السلام: قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ 
 
مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ...﴾  ، ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ...﴾  ، ﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي...﴾  ، ﴿وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ﴾ ، ﴿...يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا...﴾  ، ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ...﴾  ، وقدّ عبر القرآن الكريم في ثلاثة مواضع من سورة يوسف عن تعبير الرؤيا بكلمة التأويل. والظاهر أنّ تعبير الرؤيا ليس معنى خلاف الظاهر للرؤيا، بل هو حقيقة خارجية تُرَى في النوم بشكل مخصوص, كأن رأى يوسف عليه السلام تعظيم أبيه وأمّه وأخوته بشكل سجدة الشمس والقمر والنجوم له، ورأى ملك مصر سنوات القحط في صورة سبع بقرات عجاف يأكلن سبعاً سماناً، ورأى صاحبا يوسف عليه السلام في السجن الصلب وخِدمَة الملك في صورة عصر الخمر وحمل الخبز على الرأس تأكل الطير منه.

ب- التأويل في قصّة النبي موسى عليه السلام والخضر عليه السلام: قال تعالى: ﴿قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا﴾ ، فبعد أن خرق الخضر عليه السلام السفينة وقتل الغلام وهدم الجدار، احتجّ عليه النبي موسى عليه السلام في كلّ مرّة، فذكر له الخضر عليه السلام السرّ الكامن وراء أفعاله وحقيقة أعماله، وأسماه التأويل.

ج- التأويل في الكيل والوزن: قال تعالى: ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ 
 
خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ ، حيث إنّ المراد بالتأويل في الكيل والوزن هو خصوص وجود وضع اقتصادي في السوق بواسطة البيع والشراء والنقل والانتقال. والتأويل بهذا المعنى ليس معنى خلاف الظاهر من الكيل والوزن، بل هو حقيقة خارجية، وروح أُوجِدَت في الكيل والوزن تقوى وتضعف بواسطة استقامة المعاملة وعدم استقامتها.

د- التأويل في الاحتكام عند التنازع: قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ . ومن الواضح أنّ المراد من التأويل في هذه الآية هو ثبات الوحدة وإقامة علاقات روحية في المجتمع. وهذه حقيقة خارجية وليست معنى خلاف الظاهر لردع النزاع.

وغيرها مواضع أخرى من القرآن الكريم وردت فيها مفردة التأويل، وأُريد بها الحقيقة الواقعية والخارجية، وليس ما هو من قبيل المعنى والمفهوم من اللفظ. فتأويل كلّ شيء حقيقة ينبع منها ذلك الشيء، ويكون ذلك الشيء بدوره محقّقاً. كما 
أنّ صاحب التأويل هو محيى التأويل، وظهور التأويل يكون بواسطة صاحب التاويل. وهذا المعنى جار في القرآن الكريم, لأنّ هذا الكتاب المقدّس يستمدّ من منابع حقائق ومعنويات محرّرة من قيد المادّة, وهي أعلى مرتبة من الحسّ والمحسوس، وأوسع من قوالب الألفاظ والعبارات التي هي نتيجة حياتنا المادية. فهذه الحقائق والمعنويات بحسب الحقيقة لا يمكن التعبير عنها بألفاظ محدودة، وإنّما هي إلفات للبشرية من عالم الغيب إلى ضرورة استعدادهم للوصول إلى السعادة بواسطة الالتزام بظواهر العقائد الحقّة والأعمال الصالحة، ولا طريق للوصول إلى تلك السعادة إلا بهذه الظواهر، وعندما ينتقل الإنسان إلى العالم الآخر تتجلى له الحقائق
 
المكشوفة، وهذا ما يدلّ عليه قوله تعالى: ﴿وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ ، حيث إنّ وراء ما نقرأه ونعقله من القرآن أمراً هو من القرآن بمنزلة الروح من الجسد، والمتمثّل من المثال, وهو الذي يسمّيه تعالى بالكتاب الحكيم, وهو الذي تعتمد وتتكىء عليه معارف القرآن المنزَّل ومضامينه، وليس من سنخ الألفاظ المفرَّقة المقطّعة، ولا المعاني المدلول عليها بها. وهذا بعينه هو التأويل المذكور في الآيات المشتملة عليه, لانطباق أوصافه ونعوته عليه .

 

3- هل تأويل القرآن مختصّ بالله تعالى؟
اختلف المفسّرون في هذه المسألة، فمنهم من ذهب إلى اختصاص تأويل القرآن بالله تعالى، ومنهم من ذهب إلى أنّ الراسخين في العلم لهم نصيب من العلم بتأويل القرآن.

ومنشأ الخلاف الواقع بينهم يرجع إلى اختلافهم في تفسير قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء 
تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ﴾ ، وهل أنّ الواو في قوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا﴾ هي للعطف أم للاستئناف؟

والواقع: أنّ الآية بقرينة صدرها وذيلها وما تتلوها من الآيات إنّما هي في مقام بيان انقسام الكتاب إلى: المحكم والمتشابه، وتفرّق الناس في الأخذ بها، فهُمْ بين
 
مائل إلى اتّباع المتشابه لزيغ في قلبه، وثابت على اتّباع المحكم والإيمان بالمتشابه لرسوخ في علمه، فإنّما القصد الأوّل في ذِكر الراسخين في العلم بيان حالهم وطريقتهم في الأخذ بالقرآن ومدحهم فيه قبال ما ذُكِرَ من حال الزائغين وطريقتهم 
وذمّهم، والزائد على هذا القدر خارج عن القصد الأوّل، ولا دليل على تشريكهم في العلم بالتأويل مع ذلك، فيبقى الحصر المدلول عليه بقوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ﴾ من غير ناقض ينقضه, مِن عطف، أو استثناء، وغير ذلك، فالذي تدلّ عليه الآية هو انحصار العلم بالتأويل فيه تعالى واختصاصه به. لكنّه لا ينافي دلالة دليل منفصل يدلّ على علم غيره تعالى به, بإذنه, كما في نظائره, مثل: العلم بالغيب: قال تعالى: ﴿قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾ ، وقال تعالى: ﴿...إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ...﴾  ، وقال تعالى: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ...﴾ , فدلّ جميع ذلك على الحصر، ثمّ قال تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا﴾ , فأثبت ذلك لبعض مَن هو غيره, وهو من ارتضى مِن رسول, ولذلك نظائر في القرآن، ومن هذه النظائر علم التأويل، حيث قال تعالى: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ﴾ . ويظهر جليّاً من هذه الآيات أنّ للقرآن الكريم مقامان: مقام مكنون محفوظ من المسّ، ومقام التنزيل الذي يفهمه كلّ الناس. والفائدة الزائدة التي نستفيدها من هذه الآيات ولم نجدها في الآيات السابقة هي الاستثناء الوارد في قوله تعالى: ﴿إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ الدالّ على أنّ هناك بعض مَن يمكن أن يدرِك حقائق القرآن وتأويله. وهذا الإثبات لا ينافي النفي الوارد في قوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ﴾, لأنّ ضمّ إحداهما إلى الأخرى ينتج الاستقلال والتبعية, أي يُعرَف منها استقلال علمه تعالى بهذه الحقائق، ولا يعرفها أحد إلا بإذنه عزّ شأنه وبتعليم منه.

وبضميمة قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾  الوارد في حقّ أهل البيت عليهم السلام, بحسب روايات متواترة، نعلم أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام هم المطهّرون العالمون بتأويل القرآن الكريم .

وأفضل الراسخين في العلم هو: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, ثمّ الإمام علي عليه السلام, ثمّ الأئمّة عليهم السلام من ولده: عن الإمام الباقر عليه السلام: "أفضل الراسخين في العلم: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, قد علِمَ جميع ما أنزلَ الله في القرآن من التنزيل والتأويل، وما كان الله ليُنزل عليه شيئاً لم يُعلِّمه تأويله، وأوصياؤه من بعده يعلمونه كلّه" . وعن الإمام الصادق عليه السلام: "إنَّ الله علّم نبيّه التنزيل والتأويل، فعلّم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليّاً، وعلّمنا، والله" . وعنه عليه السلام - أيضاً -: "نحن الراسخون في العلم، فنحن نعلم تأويله" .

 


الأفكار الرئيسة
1- التأويل هو الحقيقة الواقعية التي تستند إليها البيانات القرآنية، وليس من قبيل المفاهيم المدلول عليها بالألفاظ، بل هو من الأمور العينية المتعالية من أن يحيط بها شبكات الألفاظ.

2- وردت مفردة التأويل ستّ عشرة مرّة في القرآن، وأُرِيدَ في جميعها الحقيقة الواقعية التي تستند إليها البيانات القرآنيّة.

3- إنّ وراء ما نقرأه ونعقله من القرآن أمراً هو من القرآن بمنزلة الروح من الجسد، والمتمثّل من المثال, وهو الذي يسمّيه تعالى بالكتاب الحكيم, وهو الذي تعتمد وتتكىء عليه معارف القرآن.

4- إنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام هم المطهّرون العالمون بتأويل القرآن الكريم.

 

 


مطالعة

رواية مأثورة في كيفية تأويل المتشابهات وإرجاعها إلى المحكمات 
روي عن هشام بن الحكم أنّه قال: كنت عند الصادق جعفر بن محمد عليه السلام, إذ دخل عليه معاوية بن وهب وعبد الملك بن أعين، فقال له معاوية ابن وهب: يا ابن رسول الله! ما تقول في الخبر الذي روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه؟ على أي صورة رآه؟ وعن الحديث الذي رووه أنّ المؤمنين يرون ربّهم في الجنّة؟ على أي صورة يرونه؟ فتبسّم عليه السلام, ثمّ قال: يا معاوية ما أقبح بالرجل يأتي عليه سبعون سنة أو ثمانون سنة يعيش في ملك الله، ويأكل من نعمه، ثمّ لا يعرف الله حقّ معرفته! يا معاوية! إنّ محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يرَ الربّ تبارك وتعالى بمشاهدة العيان، وإنّ الرؤية على وجهين: رؤية القلب، ورؤية البصر، فمن عنى برؤية القلب, فهو مصيب، ومن عنى برؤية البصر, فقد كفر بالله وبآياته, لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من شبّه الله بخلقه, فقد كفر. ولقد حدثني أبي، عن أبيه، عن الحسين بن علي قال: سُئِلَ أمير المؤمنين عليه السلام, فقيل: يا أخا رسول الله! هل رأيت ربك؟ فقال: وكيف أعبد مَنْ لم أرَه؟ لم ترَه العيون بمشاهدة العيان، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان. فإذا كان المؤمن يرى ربّه بمشاهدة البصر, فإنّ كلّ مَنْ جاز عليه البصر والرؤية, فهو مخلوق، ولا بدّ للمخلوق مِن الخالق, فقد جعلته إذا محدثاً مخلوقاً، ومن شبّهه بخَلْقِه, فقد اتّخذ مع الله شريكاً. ويلهم أوَلَم يسمعوا قول الله تعالى: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾, وقوله: ﴿وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا﴾ وإنّما طلع من نوره على الجبل, كضوء يخرج من سمّ الخياط، فدكدكت الأرض، وصعقت الجبال، ﴿وَخَرَّ موسَى صَعِقًا﴾, أي ميتاً، ﴿فَلَمَّا أَفَاقَ﴾, وردَّ عليه روحه، قال: ﴿سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ﴾ من قول مَن زعم أنّك تُرَى، ورجعت إلى معرفتي بك أنّ الأبصار لا تدركك ﴿وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ وأوّل المقرِّين بأنّك تَرى ولا تُرَى، وأنت بالمنظر الأعلى. ثمّ قال عليه السلام: إنّ أفضل الفرائض وأوجبها على الإنسان معرفة الربّ، والإقرار له بالعبودية، وحدّ المعرفة: أنّ يعرف أنّه لا إله غيره، ولا شبيه له ولا نظير، وأن يعرف أنّه قديم مثبت موجود غير فقيد، موصوف من غير شبيه ولا مبطل، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وبعده معرفة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والشهادة بالنبوّة. وأدنى معرفة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: الإقرار بنبوّته، وأنّ ما أتى به من كتاب أو أمر أو نهي, فذلك من الله عزّ وجلّ، وبعده معرفة الإمام عليه السلام الذي به تأتمّ بنعته وصفته واسمه في حال العسر واليسر، وأدنى معرفة الإمام عليه السلام أنّه عدل النبي صلى الله عليه وآله وسلم, إلا درجة النبوّة، ووارثه، وأنّ طاعته طاعة الله وطاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, والتسليم له في كلّ أمر، والردّ إليه، والأخذ بقوله، ويعلم أنّ الامام عليه السلام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: علي ابن أبي طالب، وبعده الحسن، ثمّ الحسين، ثمّ علي بن الحسين، ثمّ محمد بن علي، ثمّ أنا، ثم بعدي موسى ابني، وبعده علي ابنه، وبعد علي محمد ابنه، وبعد محمد علي ابنه، وبعد علي الحسن ابنه، والحجّة من ولد الحسن. ثمّ قال: يا معاوية جعلت لك أصلاً في هذا, فاعمل عليه، فلو كنت تموت على ما كنت عليه, لكان حالك أسوأ الأحوال, فلا يغرّنك قول مَنْ زعم أنّ الله تعالى يُرَى بالبصر! وقد قالوا أعجب من هذا، أَوَلَم ينسبوا آدم عليه السلام إلى المكروه؟ أَوَلَم ينسبوا إبراهيم عليه السلام إلى ما نسبوه؟ أَوَلَم ينسبوا داود عليه السلام إلى ما نسبوه من حديث الطير؟ أَوَلَم ينسبوا يوسف الصديق عليه السلام إلى ما نسبوه من حديث زليخا؟ أَوَلَم ينسبوا موسى عليه السلام إلى ما نسبوه من القتل؟ أَوَلَم ينسبوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى ما نسبوه من حديث زيد؟ أَوَلَم ينسبوا علي بن أبي طالب عليه السلام إلى ما نسبوه من حديث القطيفة؟ إنّهم أرادوا بذلك توبيخ الإسلام, ليرجعوا على أعقابهم، أعمى الله أبصارهم كما أعمى قلوبهم، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
 
 


مصادر الدرس ومراجعه


1- القرآن الكريم.
2- ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، ج1، ص158-162.
3- الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، ص99.
4- الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج3، ص44-55.
5- القرآن في الإسلام، ص49-57.
6- روحاني، المعجم الإحصائي لألفاظ القرآن الكريم، م.س، ج 2، ص 480.
7- القمي، تفسير القمي، ج1، ص96-97.
8- الكليني، الكافي، ج1، كتاب الحجّة، باب أنّ الراسخين في العلم هم الأئمّة عليهم السلام ، ح1، ص213, ج7، كتاب الأيمان...، باب ما لا يلزم من الأيمان...، ح15، ص442.
 

2020-11-23 | 914 قراءة