إنسان بعمر 250 سنة |  انتشار التشكيلات الشيعية في العالم

إنّ ما يُقال من أنّ أئمتنا الثلاثة: الجواد والهادي والعسكري عليهم السلام كانوا في غربةٍ تامة هو هكذا في الواقع، فقد كانوا بعيدين عن المدينة، وبعيدين عن أهلهم، وبعيدين عن بيئتهم الّتي ألِفوها. ولكن إلى جانب ذلك، يوجد بشأن هؤلاء الأئمّة الثلاثة - من الإمام الجواد وحتى الإمام العسكري - نقطة أخرى وهي أنّه كلّما اتّجهنا إلى نهاية إمامة الإمام العسكري عليه السلام، فإنّ هذه الغربة تزداد. إنّ دائرة نفوذ الأئمّة وسعة دائرة الشّيعة في زمان هؤلاء الأئمّة الثلاثة إذا ما قورنت بزمان الإمام الصادق والإمام الباقر عليهما السلام، نجد أنّها ازدادت عشرة أضعاف عمّا كانت عليه، وهذا شيءٌ عجيب. ولعلّ السّبب في أنّهم قد وُضعوا تحت هذه الضّغوط والتّضييق، هو هذا الموضوع. فبعد توجّه الإمام الرّضا عليه السلام إلى طرف إيران، ومجيئه إلى خراسان فإنّ من الأمور الّتي حدثت هو هذا الأمر.

 

ولعلّ هذا الأمر كان في أصل حسابات الإمام الثامن عليه السلام. وقبله كان الشّيعة منتشرين في كلّ الأماكن، لكنّهم لم يكونوا على اتّصال ببعضهم البعض، وكانوا آيسين، وليس لديهم أيّ تطلّع نحو المستقبل، أو رجاء أو تفاؤل. وكانت سلطة حكومة الخلفاء في كلّ الأماكن، وكان قبل المأمون، هارون مع قدرته الفرعونية. وعندما جاء الإمام عليه السلام إلى طرف خراسان وعبر هذا المسير ظهرت شخصيّةٌ أمام النّاس هي تجلٍّ للعلم والعظمة والصدق والنورانية، وما كان النّاس قد شاهدوا مثل هذه الشّخصيّة من قبل. فكم كان عدد الشّيعة الّذين كان بإمكانهم قبل هذا أن يمرّوا من خراسان إلى المدينة ليروا الإمام الصادق عليه السلام؟ لكن الجميع شاهدوا الإمام عن قرب في هذا المسير الطويل، ولقد كان شيئًا عجيبًا مدهشًا، وكأنّ المرء ينظر إلى النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. فتلك الهيبة والعظمة المعنويّة والعزّة والأخلاق والتّقوى والنّورانيّة والعلم الوسيع أحدثت هزّة، فمهما سُئل وأيّ شيءٍ طُلب منه كان الأمر بيده، وهو الشيء الّذي ما كان النّاس ليروه من قبل.

 

وصل الإمام الرّضا عليه السلام إلى خراسان ومرْو، وكانت مرْو هي مركز تركمانستان الحالية. وبعد سنةٍ أو سنتين، استُشهد الإمام عليه السلام وفُجع النّاس. فقد جعل مجيء الإمام عليه السلام - وهو المُظهِر لتجلّيات أشياء لم يسمع بها النّاس ولم يروها من قبل - وكذلك شهادته - الّتي أدّت إلى فاجعة كبيرة - فقد جعل أجواء هذه المناطق أجواء شيعيّة، وهذا لا يعني أنّ الجميع أصبحوا شيعة، لكنّهم أصبحوا محبّين لأهل البيت. ففي هذا الجوّ انكبّ الشّيعة على العمل. فأنتم ترون كيف أنّ إقامة الأشعريين في قم تظهر فجأة، فلماذا جاؤوا؟ فالأشعريون عربٌ، وقد نهضوا وجاؤوا إلى قم وبسطوا فسطاط الحديث والمعارف الإسلاميّة في هذه المدينة وأسّسوا مركزاً فيها. وكذلك نجد في الريّ من هم أمثال الكليني . 

 

فشخصٌ مثل الكليني، لا يترعرع إلّا في بيئةٍ شيعيّة وبيئةٍ اعتقادية، حتّى يصبح هذا الشاب الكلينيّ بتلك الخصوصيّات. وفيما بعد أيضًا، عندما استمرّت هذه الحركة، أنتم ترون الشيخ الصدوق كيف أنّه يسافر إلى هرات وخراسان وأماكن أخرى ويبدأ بجمع أحاديث الشّيعة، فهذا أمرٌ مهمٌّ جدًّا. فماذا يفعل محدّثو الشّيعة في خراسان؟ وماذا يفعلون في سمرقند؟ من يوجد في سمرقند؟ إنّه الشيخ العيّاشي السمرقندي ، هو الّذي قيل بشأنه: "في داره الّتي كانت مرتعاً للشيعة وأهل العلم"، كما ورد في كلمات الشيخ الكشّي . والكشّي نفسه سمرقنديّ. لهذا فإنّ حركة الإمام الرضا عليه السلام وفيما بعد شهادته مظلومًا، هي الّتي جعلت مثل هذه الأجواء لصالح الأئمّة عليهم السلام، وقد نهض الأئمّة للاستفادة من هذا الأمر. فالرّسائل والزيارات المتبادلة الّتي كانت تجري لم تكن تحدث بطريقةٍ عاديّة، بل كانت كلّها تجري في الخفاء، وإلّا فلو كانت علنيّةً لكانوا قبضوا على أصحابها وقطّعوا أيديهم وأرجلهم. فهل على سبيل المثال، كان ممكنًا في ظلّ ذاك العنف والقمع الّذي مارسه المتوكّل، ومنع فيه زيارة كربلاء، أن تصل أسئلة النّاس إلى الإمام عليه السلام بسهولة، ثم ترجع إليهم الإجابات؟ أو أن تُرسل الحقوق الشّرعيّة إلى الإمام عليه السلام، ثمّ يصلهم منه الإيصالات؟ فكلّ هذا دليلٌ على وجود شبكةٍ إعلاميّة وتعليميّة عظيمة لهؤلاء الأئمّة العظماء الثلاثة.

 

لقد حدث مثل هذا الأمر ما بعد الإمام الرضا عليه السلام وإلى زمن شهادة الإمام العسكري عليه السلام. فقد استطاع الإمام الهادي والإمام العسكريّ عليهما السلام في مدينة سامرّاء تلك، الّتي كانت في الواقع بمثابة معسكر كبير ــ لم تكن في ذلك الكبر، بل عاصمةٌ حديثة البناء سرورٌ لكلّ من رأى(سُرّ من رأى) حيث يجتمع فيها الرؤساء والأعيان ورجال الحكومة وبعض النّاس العاديين الّذين يؤمّنون الحوائج اليوميّة ــ لقد استطاعا أن يُنظّما كلّ هذه الروابط بين جميع أقطار العالم الإسلاميّ. فعندما ننظر إلى أبعاد حياة الأئمّة نفهم ماذا كانوا يفعلون. لهذا، لم تنحصر القضيّة في تلك الفتاوى الّتي كانوا يُجيبون بها على أسئلة النّاس حول الصّلاة والصّوم والطّهارة والنّجاسة. بل كانوا ينطلقون من موقعيّة الإمام بذلك المعنى الإسلاميّ الخاصّ ويتحدّثون وفقه مع النّاس. وبرأيي يمكن الالتفات إلى هذا البعد إلى جانب غيره من الأبعاد. أنتم ترون أنّهم عندما أحضروا الإمام الهادي عليه السلام من المدينة إلى سامرّاء، وقتلوه في سنّ الشباب عن عمرٍ يناهز 42 سنة، أو عندما يقتلون الإمام العسكريّ في سنّ الـ 28 سنة، فكلّ ذلك دليلٌ على هذه الحركة العظيمة للأئمّة والشّيعة وأصحابهم الكبار، عبر التاريخ. ومع أنّ جهاز الحكم كان نظامًا بوليسيًّا ويعمل بشدّة، فقد استطاع الأئمّة في مثل هذا الوضع أن يُحقّقوا مثل هذه النجاحات. مقصودنا أنّه ينبغي مشاهدة هذه العزّة والعظمة إلى جانب تلك الغربة.

(10/05/2003)


 
لا يوجد أيّ زمانٍ شهدت فيه روابط الشّيعة وانتشار تشكيلاتهم في كلّ أرجاء العالم الإسلاميّ ما شهدته في زمن حضرة الإمام الجواد والإمام الهاديّ والإمام العسكريّ عليهم السلام. فوجود الوكلاء والنوّاب وتلك القصص الّتي تُنقل عن الإمام الهادي عليه السلام والإمام العسكريّ عليه السلام ــ مثلًا عندما كان يُحضر له المال والإمام يُحدّد ماذا ينبغي أن يُفعل به ــ دليلٌ على هذا الأمر. أي إنّه بالرغم من الإقامة الجبريّة لهذين الإمامين الجليلين في سامرّاء، وقبلهما الإمام الجواد عليه السلام بنحوٍ ما، والإمام الرضا عليه السلام بنحوٍ آخر، فإنّ الارتباط والتواصل مع النّاس كان يتّسع على هذه الشاكلة. وهذه الروابط والتّواصل كانت موجودة قبل زمن الإمام الرضا عليه السلام. لكن غاية الأمر أنّ مجيء الإمام إلى خراسان كان له تأثيرٌ كبيرٌ جدًّا في هذه القضيّة.

(09/08/2005)

 

إنّ أئمّتنا وطيلة الـ 250 سنة للإمامة ــ أي منذ رحيل نبيّ الإسلام المكرّم صلى الله عليه وآله وسلم وإلى زمن وفاة الإمام العسكري ــ قد لاقوا الكثير من التّعذيب والقتل والظّلم، وحريٌّ بنا أن نبكيهم، إنّ مظلوميّتهم تستحضر القلوب والعواطف، لكنّ هؤلاء المظلومين قد انتصروا سواءٌ في مقطعٍ من الزمّان أو في كلّ هذا الزّمان وطوله.

(20/08/2004)

 


المصدر: كتاب إنسان بعمر 250 سنة، للامام الخامنئي، الفصل الثالث عشر

2025-04-18 | 19 قراءة