
بعد ان عرضنا في المقال السابق لسياسة المأمون، نتعرّض إلى السّياسة والإجراءات الّتي قام بها الإمام علي بن موسى الرّضا عليه السلام لمواجهة هذا الواقع:
النقطة الأولى:
عندما دُعي الإمام عليه السلام من قِبَل المأمون لينتقل من المدينة إلى خراسان، نشر جوّاً في المدينة يدلّ على انزعاجه وتضايقه من هذه الخطوة، بحيث إنّ كلّ شخص كان حول الإمام عليه السلام تيقّن أنّ المأمون يُضمر سوءً للإمام عليه السلام من خلال إبعاده عن موطنه. ولقد أعرب الإمام للجميع عن سوء ما يرمي إليه المأمون بكلّ الأساليب الممكنة، فقام بذلك عند توديع حرم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وعند توديع عائلته وأثناء خروجه من المدينة وفي طوافه حول الكعبة من أجل الوداع، وبكلامه وسلوكه ودعائه وبكائه، كان واضحًا للجميع أنّ هذا السفر هو رحلته الأخيرة ونهاية حياته عليه السلام.
وخلافًا لما كان يتصوّره المأمون وهو أن يُنظر إليه نظرة حسنة، بينما يُنظر إلى الإمام عليه السلام، الّذي قَبِل بطلب المأمون، نظرة سيّئة، نرى أنّ قلوب الجميع، ونتيجةً لردّ الفعل الّذي قام به الإمام عليه السلام في المدينة، ازدادت حقدًا على المأمون منذ اللحظة الأولى لسفر الإمام عليه السلام. فقد أبعد المأمون إمامهم العزيز عليه السلام عنهم بهذا الشكل الظالم ووجّهه إلى مقتله.
النّقطة الثانية:
عندما طُرحت ولاية العهد على الإمام في "مَروْ" رفض الإمام عليه السلام هذا الطّرح بشدّة، ولم يقبل حتّى هدّده المأمون صراحةً بالقتل. ولقد انتشر في كلّ مكان رفض الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام لولاية العهد من قبل الخلافة. كما أنّ العاملين في الحكومة، الّذين لم يكونوا على علمٍ بدقائق سياسة وتدابير المأمون، قاموا وعن غباء بنشر رفض الإمام عليه السلام في كلّ مكان. حتّى أنّ الفضل بن سهل صرّح في جمع من العاملين في الحكومة، أنّه لم يرَ على الإطلاق خلافة بهذا القدر من المذلّة، فالمأمون الّذي هو أمير المؤمنين يُقدّم الخلافة أو ولاية العهد لعليّ بن موسى الرضا وهو يردّها عليه رافضًا [الشيخ المفيد، الإرشاد، ج 2، ص 260].
ولقد سعى الإمام عليه السلام في كلّ فرصة تُتاح له أن يُبيّن أنّه مجبر على تسلّم هذا المنصب (ولاية العهد) وكان يذكر دائمًا أنّه هُدّد بالقتل حتّى يقبل بولاية العهد. وكان من الطّبيعيّ جدًّا أن يُصبح هذا الحديث، الّذي هو من أعجب الظّواهر السّياسيّة، متناقلًا على الألسن، ومن مدينة إلى مدينة. فكلّ العالم الإسلاميّ في ذلك اليوم وفيما بعد فهم أنّ شخصًا مثل المأمون حارب أخاه الأمين حتّى قتله، لأجل أن يُبعده عن ولاية العهد ووصل به الأمر من شدّة غضبه على أخيه أن قام برفع رأسه وآلافٍ آخرين على الرّماح وطاف بهم من مدينة إلى مدينة. وشخصٌ مثل علي بن موسى الرضا عليه السلام، يظهر وينظر بلا مبالاة إلى ولاية العهد، ولا يقبلها إلّا مكرهًا وتحت التّهديد. وعند المقارنة بين الإمام علي بن موسى الرّضا عليه السلام والمأمون العبّاسي، نرى أن كلّ ما جهد المأمون لتحقيقه ووفّر في سبيله كلّ ما لديه كانت نتيجته عكسيّة بالكامل. هذه هي الخطوة الثانية للإمام عليه السلام.
أمّا النقطة الثّالثة:
في سياسته عليه السلام والّتي واجه بها سياسة المأمون، هي أنّه مع كلّ الضّغوطات والتّهديدات الّتي مورست عليه، لم يقبل بولاية العهد إلا بشرط الموافقة على عدم تدخّله في أيّ شأن من شؤون الحكومة من حرب وصلح وعزل ونصب وتدبير وإشراف على الأمور. والمأمون، الّذي كان يعتقد أنّ هذا الشّرط ممكن تحملّه في بداية الأمر، لأنّه يُمكنه بعدها أن يجرّ الإمام عليه السلام إلى ساحة أعمال ونشاطات الحكومة تدريجيًّا، وافق على قبول شرط الإمام عليه السلام الّذي ينصّ على عدم التدخّل بأيّ شيء مهما كان. ومن الواضح أنّ قبول المأمون بهذا الشرط جعل خطّته كمن يكتب على وجه الماء. فأكثر أهدافه الّتي كان يرمي إليها لم تتحقّق. والإمام عليه السلام، الّذي كان يُطلق عليه لقب وليّ العهد وكان قهرًا يستفيد من إمكانات جهاز الحكم، كان دائماً يُقدّم نفسه كأنّه مخالف ومعترض عليه، فهو لم يكن يأمر ولا ينهى، ولا يتصدّى لأيّ مسؤولية ولا يقوم بأيّ عمل للسلطة، ولا يدافع عن الحكومة، ولا يقدّم أيّ تبرير لأعمال النّظام. لذا كان من الواضح أنّ هذا الشخص الّذي يُعتبر عضوًا في النّظام الحاكم والّذي أدخل إليه بقوّة وكان يتنحّى عن كلّ المسؤوليات، لا يُمكن أن يكون شخصًا محبًّا ومدافعًا عن هذا النّظام. ولقد أدرك المأمون جيّدًا هذا الخلل والنّقص، فحاول عدّة مرّات وباستخدام لطائف الحيل أن يحمل الإمام على العمل خلافًا لما تعهّد به سابقًا، فيجرّ الإمام عليه السلام بذلك إلى التدخّل في أعمال الحكومة ويقضي على سياسة الإمام عليه السلام المواجهة والرافضة. لكن الإمام كان في كلّ مرّة يُحبط خطّته بفطنته وبراعته.
وكنموذج على هذا الأمر يذكر معمر بن خلاد نقلًا عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام أنّ المأمون كان يقول للإمام: إذا أمكن أن تكتب شيئًا لأولئك الّذين يسمعون كلامك ويطيعونك حتّى يُخفّفوا من حدّة التوتر والأوضاع المضطربة في مناطق وجودهم، لكنّ الإمام عليه السلام كان يرفض، وكان يُذكّره بشرطه السّابق القاضي بعدم تدخّله مطلقًا في أيّ من الأمور. نموذجٌ آخر مهمٌّ جدًّا وملفتٌ هو حادثة صلاة العيد حيث إنّ المأمون وبحجّة أنّ النّاس يعرفون قدر الإمام عليه السلام وقلوبهم تهفو حبًّا له، طلب من الإمام عليه السلام أن يؤمّ النّاس في صلاة العيد، رفض الإمام عليه السلام في البداية، ولكن، وبعد إصرار المأمون على طلبه، وافق بشرط أن يخرج إلى الصّلاة ويُصلّي بنفس طريقة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وعلي بن أبي طالب عليه السلام. فلمّا استفاد الإمام عليه السلام من هذه المناسبة وانتهزها كفرصة جيدة لصالح مشروعه، ندم المأمون الّذي كان قد أصرّ على ذلك وأرجع الإمام عليه السلام من منتصف الطّريق قبل أن يُصلّي، معرّضًا بفعله هذا سياسة نظامه المخادعة والمتملّقة لضربةٍ أخرى في صراعه مع الإمام عليه السلام [الشيخ المفيد، الإرشاد، ج 2، ص 257-258].
النقطة الرابعة:
في سياسة الإمام عليه السلام هي أنّ استفادته الأساس من مسألة ولاية العهد كانت أهم من كلّ ما ذُكر، فبقبوله بولاية العهد استطاع أن ينهض بحركة لا نظير لها في تاريخ حياة الأئمّة (بعد انتهاء خلافة أهل البيت في سنة 40 هجرية حتّى آخر عهود الخلافة الإسلاميّة)، ولقد تمثّل ذلك بظهور دعوة الإمامة الشيعيّة على مستوًى كبير في العالم الإسلاميّ وخرق ستار التقيّة الغليظ في ذاك الزّمان، حيث تمّ إيصال نداء التشيّع إلى أسماع جميع المسلمين، فمنبر الخلافة القويّ جُعل تحت تصرّف الإمام عليه السلام، وقد قام الإمام عليه السلام من خلاله برفع ندائه وإعلان ما كان يُقال طيلة 150 سنة في الخفاء والتقية للخواص والأصحاب المقرّبين، وبالاستفادة من الإمكانات الرائجة في ذلك الزمان الّتي لم تكن إلا تحت سيطرة الخلفاء والمقرّبين منهم في الرّتب العالية، أوصل ذلك النداء إلى أسماع الجميع.
وكذلك أيضاً مناظرات الإمام عليه السلام الّتي جرت بينه وبين جمع من العلماء في محضر المأمون حيث بيّن أمتن الأدلّة على مسألة الإمامة، وهناك أيضًا رسالة جوامع الشّريعة الّتي كتبها الإمام للفضل بن سهل حيث ذكر فيها أمّهات المطالب العقائدية والفقهية للتشيّع، وأيضًا حديث الإمامة المعروف الّذي قد ذكره الإمام عليه السلام في مَرْو لعبد العزيز بن مسلم، إضافة إلى تلك القصائد الكثيرة الّتي نُظّمت في مدح الإمام بمناسبة تسلّمه ولاية العهد، ومنها قصيدتا دِعبل وأبو نوّاس اللتان تُعدّان من أهم القصائد المخلّدة في الشّعر العربيّ. إن كلّ ما ذكرناه من استفادة الإمام عليه السلام من مسألة قبوله بولاية العهد، يدلّ على مدى النّجاح العظيم الّذي حقّقه الإمام عليه السلام في صراعه ضدّ سياسة المأمون.
وفي تلك السنة نجد الخطب حافلة بذكر فضائل أهل البيت في المدينة، ولعلّه في الكثير من الأقطار الإسلاميّة، وذلك عندما وصل خبر ولاية علي بن موسى الرضا عليه السلام. فبعد أنّه لم يكن هناك شخصٌ يجرؤ على ذكر فضائل أهل بيت النبيّ عليهم السلام، وكانوا يُشتمون علنًا على المنابر لسبعين سنة، وما تلاها من سنوات،، فقد رجع في زمان الإمام الرّضا عليه السلام ذكر عظمة وفضائل أهل البيت في كلّ مكان، كما أنّ أصحابهم ازدادوا جرأةً وإقدامًا بعد هذه الحادثة، وتعرّف الأشخاص، الّذين كانوا يجهلون مقام أهل البيت عليهم السلام، عليهم وصاروا يُحبونهم، وأحسّ الأعداء الّذين أخذوا على عاتقهم محاربة أهل البيت بالضّعف والهزيمة. فالمحدّثون والمفكّرون الشّيعة أصبحوا ينشرون معارفهم ــ الّتي لم يكونوا ليجرؤوا قبلًا على ذكرها إلا في الخلوات ــ في حلقات دراسيّة كبيرة وفي المجامع العامّة علنًا.
في حين رأى المأمون أنّه من المفيد فصل الإمام عليه السلام عن النّاس. فهذا الفصل والإبعاد هو في النّهاية وسيلة لقطع العلاقة المعنويّة والعاطفيّة بين الإمام والنّاس. وهذا ما يريده المأمون، ولمواجهة هذه الخطوة لم يكن الإمام عليه السلام يترك أيّ فرصة تُمكّنه من الاتّصال بالنّاس إلّا ويستفيد منها خلال تحرّكه ومسيره. فمع أنّ المأمون كان قد حدّد الطّريق الّتي سيسلكها الإمام من المدينة وصولًا إلى مرْو، بحيث لا يمرّ على المدن المعروفة بحبّها وولائها لأهل البيت مثل قم والكوفة، لكنّ الإمام عليه السلام استفاد من كلّ فرصة في مسيره لإقامة علاقات جديدة بينه وبين النّاس، فأظهر في منطقة الأهواز آيات الإمامة، وفي البصرة الّتي لم يكن أهلها من محبّي الإمام سابقًا، جعلهم من محبّيه ومريديه، وفي نيشابور ذكر حديث السّلسلة الذهبية ليبقى ذكرى خالدة، إضافة إلى ذلك الآيات والمعجزات الّتي أظهرها. وقد اغتنم الفرصة لهداية وإرشاد النّاس في سفره الطّويل هذا. وعندما وصل إلى مرو الّتي هي مركز إقامة الخلافة كان عليه السلام كلّما سنحت له الفرصة وأفلت من رقابة الجهاز الحاكم يُسارع للحضور في جمع النّاس.
والإمام عليه السلام، فضلًا عن أنّه لم يحضّ ثوّار التشيّع على الهدوء أو الصلح مع جهاز الحكومة، بل إنّ القرائن الموجودة تدلّ على أنّ الوضع الجديد للإمام المعصوم كان عاملًا محفّزًا ومشجّعًا لأولئك الّذين أصبحوا، بفعل حماية الإمام ومؤازرته لهم، محلّ احترام وتقدير ليس فقط عند عامّة النّاس بل حتّى عند العاملين وولاة الحكومة في مختلف المدن، بعد أن كانوا ولفتراتٍ طويلة من عمرهم يعيشون في الجبال الوعرة والمناطق النّائية البعيدة. فشخصٌ مثل دعبل الخزاعيّ صاحب البيان الجريء، الذي لم يكن على الإطلاق يمدح أي خليفة أو وزير أو أمير، والذي لم يكن في خدمة الجهاز الحاكم، لا بل لم يسلم من هجائه ونقده أيّ شخصٍ من حاشية الخلافة، وكان لأجل ذلك ملاحقًا دومًا من قبل الأجهزة الحكوميّة، وظلّ لسنوات طوال مهاجرًا ليس له موطن، يحمل داره على كتفه، ويسير من بلدٍ إلى بلد ومن مدينةٍ إلى مدينة، أصبح بإمكانه الآن مع وجود الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام أن يصل ويلتقي بمقتداه ومحبوبه بحريّة، وأن يُوصل في فترةٍ قصيرة شعره إلى كلّ أقطار العالم الإسلاميّ، ومن أشهر وأبهى قصائده تلك الّتي تلاها للإمام عليه السلام حيث اشتهر بها، والّتي تبيّن وثيقة الثّورة العلويّة ضدّ الأنظمة الأمويّة الحاكمة. حتّى أنّه وفي طريق عودته من عند الإمام، كان يسمع قطّاع الطّرق يُردّدون تلك القصيدة نفسها. وهذا يدلّ على الانتشار السّريع لشعره.
والآن نعود لنلقي نظرة عامّة على ساحة الصّراع الخفيّ الّذي بدأ المأمون بالإعداد له، ودخل فيه الإمام علي بن موسى الرّضا للأسباب الّتي قد أشرنا إليها. فلنرَ كيف كان الوضع بعد مضيّ سنة على تسلّم الإمام ولاية العهد.
المصدر: كتاب إنسان بعمر 250 سنة، للامام الخامنئي، الفصل الثاني عشر: الإمام الرضا (ع)