إنسان بعمر 250 سنة | التشكيلات السرية في عصر الامام الصادق (ع) 04

لقد استطاع الإمام الصّادق عليه السلام وبمساعدة آبائه الواسعة - أي الإمام السجّاد والإمام الباقر وخصوصًا في أواخر حياة الإمام الباقر عليه السلام - ومن ثمّ هو نفسه من خلال هذا السّعي، إعداد عدّةٍ مؤمنةٍ ومسلمة ومذهبيّة وأصيلة وثوريّة ومضحّية ومستعدّة للمخاطرة في كلّ أنحاء العالم الإسلاميّ. ولم يكن هؤلاء أشخاصًا عاديّين، لا يعني ذلك أنّهم كانوا من طبقات مميّزة، كلا، فكان منهم التّاجر والكاسب والغلام وأمثالها، ولكن من ناحية الرّكيزة المعنويّة لم يكونوا يشبهون الأشخاص العاديّين بأيّ شكلٍ من الأشكال. فقد كانوا أشخاصًا تُختصر حياتهم في هدفهم وفي مذهبهم، وكانوا منتشرين في كلّ الأماكن. من المدهش أنّ أتباع الإمام الصادق عليه السلام كانوا منتشرين في كلّ مكان، فلا ينبغي التصوّر أنّهم كانوا يتواجدون في المدينة فحسب، بل كانوا يتواجدون في الكوفة أكثر من المدينة، لا بل كان البعض منهم في الشّام نفسها. فهؤلاء كانوا يُمثّلون الشّبكة العظيمة لتشكيلات الإمام الصادق عليه السلام. الحزب العلويّ وحزب التشيّع، وما ذكرته هنا بشأن تلك الشّبكة هو التشيّع نفسه،


 
أي إنّ ما ذكرته حول تلك الشّبكة الواسعة للتشكيلات هو التشيّع نفسه. وهذا من الفصول الّتي لم تُعرف من حياة الإمام الصادق، إنّه من الأمور الّتي أؤكّد عليها أنا العبد وأصرّ عليها، كان هناك شبكة تنظيميّة عظيمة وحزبٌ كاملٌ يُدار من قِبَل الإمام الصّادق عليه السلام في كلّ أرجاء العالم الإسلاميّ وكانت هذه من نقاط القوّة.

(05/09/1980)

 

كان هناك شبكة هي الّتي كانت تتحمّل مسؤوليّة الأنشطة الواسعة والمثمرة المتعلّقة بقضية الإمامة في الكثير من المناطق النّائية لدولة المسلمين، وخصوصًا في نواحي العراق العربيّ وخراسان. ولكن هذا أحد وجوه القضيّة وجزءٌ صغيرٌ جدًّا منها. إنّ موضوع التّشكيلات السرّيّة في ساحة الحياة السّياسيّة للإمام الصادق عليه السلام وللأئمّة الآخرين أيضًا، هو من أهمّ فصول هذه الحياة والسّيرة الجيّاشة، والوقت نفسه من أكثرها غموضًا وإبهامًا.

 

وكما قلنا سابقًا، من أجل إثبات وجود مثل هذه المنظّمة، لا يمكن ولا ينبغي أن نتوقّع وجود ذلك صراحةً في الوثائق. لا ينبغي توقّع أن يعترف أحد الأئمّة أو أحد أصحابهم المقرّبين بصراحة بوجود تشكيلات سياسيّة فكريّة شيعيّة، فمثل هذ الشّيء لا يمكن الاعتراف به. ففي حال جاء يومٌ واطّلع العدوّ على وجود مثل هذه التشكيلات، وسأل الإمام عليه السلام أو أحد أصحابه حوله، فإنّ التّوقّع المعقول هو التنكّر التامّ لوجود مثل هذا الشّيء، بل ينبغي اعتبار ذلك ظنًّا سيّئًا أو تهمةً باطلة. فمثل هذا الأمر هو من الخصائص الدّائمة للعمل السّرّي. بالطّبع، من خلال التبحّر في تاريخ حياة الأئمّة، لا يمكن أن ننتظر أيضًا القبول بمثل هذه التّشكيلات من دون شاهدٍ أو وثيقةٍ أو دليلٍ مقنعٍ. فيجب السّعي للوصول إلى القرائن والشّواهد وبواطن الحوادث الّتي تبدو بالظّاهر بسيطةً، وإن لم تلفت نظر المشاهد العادي، ولكن بالدقّة والتأمّل تنبئ عن أحداثٍ سرّيةٍ كثيرة. لو إنّنا نظرنا من هذا المنظار إلى كلّ مرحلة حياة الأئمّة الّتي استغرقت قرنين ونصف، فسوف يصبح مسلّمًا تقريبًا، وجود مثل هذه التشكيلات السريّة الّتي تعمل تحت إمرة الأئمّة.

(قيادة الإمام الصادق عليه السلام، ص96-97)

 

ماهيّة التّشكيلات السرّية ودورها


ما هو المقصود من التّشكيلات؟ من البديهيّ أنّه لم يكن المقصود حزباً منظّماً وبمفهوم اليوم ـ أيّ مجموعة من الكوادر المنظّمين وقادة منطقة ومدينة وغيرها ــ لا يمكن أن يكون كذلك. التّشكيلات هي مجموعة من النّاس، ذوو هدفٍ مشترك، يقومون بأعمال ومسؤوليات مختلفة بالارتباط بمركزٍ واحدٍ وقلبٍ نابض وعقلٍ حاكم، ويشعرون فيما بينهم بنوع من الرّوابط والإحساسات والمشاعر القريبة والمتآلفة.

 

وهذا الجمع في زمن عليّ عليه السلام ـ أي في المدّة الفاصلة بين السّقيفة والخلافة، والّتي امتدّت لخمسة وعشرين سنة ـ هم خواص الصّحابة أنفسهم الّذين كانوا، بالرغم من كلّ تظاهر جهاز الخلافة بالحقّانيّة والشعبيّة، كانوا يعتقدون أنّ الحكومة هي حقّ أفضل المسلمين وأكثرهم تضحيةً ـ أي عليّ بن أبي طالب عليه السلام ـ ولم ينسوا النصّ الصّريح للنبيّ بخلافة عليّ عليه السلام، وقد أعلنوا بصراحة، منذ الأيّام الأولى بعد السّقيفة مخالفتهم للذين حصلوا على الخلافة ووفاءهم للإمام عليه السلام. وفيما بعد، ورغم أنّ المصلحة الكبرى حملت الإمام عليه السلام على السّكوت وحتّى التّعاون مع الخلفاء الأوائل، فقد سلكوا المسار العاديّ للمجتمع الإسلاميّ، لكنّهم لم يُضيّعوا أبدًا رأيهم وتشخيصهم ونظرتهم الصّحيحة، وبقوا على اتّباع عليّ عليه السلام, ولهذا السبب سُمّوا بحقّ شيعة عليّ، وقد اشتُهروا بهذا التوجّه الفكريّ والعمليّ. ويُعدّ من هؤلاء شخصيّاتٌ معروفة ومفتخرة كسلمان وأبي ذرّ وأُبيّ بن كعب والمقداد وعمّار وحذيفة و...

 

وتؤيّد الشّواهد التاريخيّة أنّ هذه الجماعة كانت تنشر الفكر الشيعيّ - أي الاعتقاد بضرورة اتّباع الإمام كقائدٍ فكريّ وسياسيّ أيضًا - بين النّاس، ملتزمةً بأساليب المصلحة والحكمة، وكانوا يزدادون يومًا بعد يوم، وكان كلّ عملٍ لأجل تشكيل الحكومة العلويّة يُعدّ بمنزلة مقدّمة للواجب.

 

بعد أن وصل أمير المؤمنين عليه السلام إلى الحكومة في العام 35 للهجرة، فإنّ الأشخاص الوحيدين الّذين قبلوا وأذعنوا للإمام عليه السلام على أساس المعايير الشيعيّة في مجال الحكومة والإمامة وبإيمانٍ راسخٍ هي هذه الجماعة الشيعيّة نفسها، أي أولئك الّذين تربّوا بصورة مباشرة وغير مباشرة على يد الإمام عليه السلام في مرحلة الـ 25 سنة الماضية. الآخرون - أي أكثر النّاس - وإن كانوا يعيشون في دائرة قيادة الإمام عليه السلام وكانوا يتحرّكون من النّاحية العمليّة في اتّجاه الفكر الشيعيّ لكنّهم لم يكونوا يتمتّعون بتلك العلقة الروحيّة والفكريّة الّتي جعلتهم ضمن مجموعة التشكيلات الشيعيّة.


 وبالالتفات إلى وجود هذين الصّنفين بين أتباع الإمام عليه السلام، يمكن تفسير هذا التّفاوت الكبير في تعامل مسلمي ذلك الزّمان مع الإمام عليه السلام، فهناك أمثال عمّار ومالك الأشتر وحُجر بن عدي وسهل بن حُنيف وقيس بن سعد، وإلى جانبهم يوجد أشخاص كأبي موسى الأشعريّ وزياد بن أبيه وسعد بن أبي وقّاص. يجب أن نقبل أنّه لو كان قد حصل أوّل إقدامٍ على إيجاد التشكيلات الشيعيّة في هذا اللقاء، فإنّ طرح وأرضيّة ذلك كانت موجودةً ومرسومةً قبل مدّةٍ طويلةٍ في كلام الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام في مخاطبة أصحابه المقرّبين.

 

كانت الإجراءات المهمّة جدًّا الّتي حصلت بعد حادثة صلح الإمام الحسن عليه السلام قد أدّت إلى انتشار الفكر الشّيعيّ وتوجيه هذه المجموعة المترابطة والمتآلفة، الّتي كانت تستطيع أن تتمتّع بالمزيد من التحرّك والديناميكيّة إثر السّلطة الظّالمة للسّلطان الأمويّ والضغط الّذي كان يمارسه عليها، فكان القمع والضغط يؤدّي دومًا إلى المزيد من تماسك ورسوخ وانتشار القوى المنسجمة الواقعة تحت هذا القمع، بدل أن يكون عاملًا لتشتّتها.

 

إنّ تجميع الطاقات الشّيعيّة الأصيلة والموثوقة وحمايتهم من شرّ المؤامرات الغادرة للجهاز الأمويّ ضدّ الشّيعة، ونشر الفكر الإسلاميّ الأصيل في دائرةٍ ضيّقةٍ ولكنّها عميقةٌ جدًّا، واستقطاب الطاقات المستعدّة وإضافتهم إلى مجموع الشّيعة، وانتظار الفرصة المناسبة وفي النّهاية الثّورة والتحرّك في الوقت المناسب الّذي يُدمّر النّظام الجاهلي لبني أميّة، سيُعيد النّظام الإسلاميّ والعلويّ إلى موقعه، هكذا كانت استراتيجيّة الإمام الحسن وآخر الأسباب الّتي جعلت قبوله للصّلح غير قابلٍ للاجتناب.

 

ولعلّه لأجل هذه الجهة، وبعد حادثة الصلح، عندما جاءت جماعة من الشّيعة بزعامة المسيّب بن نجيّة وسليمان بن صُرد الخزاعي إلى المدينة -حيث كان الإمام عليه السلام قد رجع لتوّه من الكوفة وجعل هذه المدينة مجدّدًا مقرًّا فكريًّا وسياسيًّا لنفسه - واقترحوا على الإمام عليه السلام إعادة بناء القوى العسكريّة والسّيطرة على الكوفة والهجوم على جيش الشّام، فاختار الإمام عليه السلامهذين الرّجلين من بين الجميع واختلى بهما، وبكلماتٍ لم يصلنا منها أيّ خبرٍ لا من قريب ولا من بعيدٍ أقنعهما بعدم صوابيّة هذه الخطّة، بحيث إنّهما عندما رجعا إلى أتباعهم ورفقائهم أفهموهم بكلماتٍ قصيرة وبليغة انتفاء موضوع الثّورة العسكريّة وضرورة رجوعهم إلى الكوفة وانصرافهم إلى أعمالهم.

 

وبالالتفات إلى هذه القرائن، كان حسين المؤرّخ العربيّ المعاصر الفذّ - يعتقد أنّ اللبنة الأولى لبناء التّشكيلات السّياسيّة الشّيعيّة قد حصلت في ذلك اليوم، وأُسّست في ذلك المجلس الّذي اجتمع فيه الإمام الحسن عليه السلام مع هاتين الشخصيّتين الشيعيّتين المعروفتين وتباحث معهما.

 

وقد قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام : "... لو قد فقدتموني لرأيتم بعدي أشياء يتمنّى أحدكم الموت ممّا يرى من الجور والعدوان والأثرة ، والاستخفاف بحقّ الله والخوف على نفسه، فإذا كان ذلك، فاعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرّقوا، وعليكم بالصّبر والصّلاة والتقيّة، واعلموا أن الله عزَّ وجلَّ يُبغض من عباده التلوّن. لا تزولوا عن الحق وأهله فإنّ من استبدل بنا هلك، وفاتته الدّنيا وخرج منها آثمًا..." . وهذا الخطاب الّذي يرسم بوضوح أهم مساوئ العصر الأموي ويُبيّن الأمر الدّائر حول التّشكيل والتّنظيم والانسجام، يُعدّ من أكثر الوثائق الملفتة المتعلّقة بحزب الشّيعة. وهذا الطّرح نفسه هو الّذي نُشاهده في لقاء الإمام الحسن عليه السلام وهذين الرّجلين اللذين يُعتبران من أخلص الشّيعة ذاتًا وعملًا. لا شكّ أنّه لم يكن جميع الأتباع والشّيعة مطّلعين على هذه الخطّة الفائقة الذكاء، وهذا كان سرّ الاعتراضات والإشكالات الّتي كانت ترد من الأصحاب على الإمام عليه السلام، ولكنّ الجواب الّذي كانوا يسمعونه دائمًا بهذا المضمون ﴿وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ ،  هو إشارةٌ خفيّة إلى هذه السّياسة والتّدبير.

 

وطوال مدّة حكومة معاوية المتجبّرة الّتي دامت عشرين سنة، وبالتّفصيل المؤلم الّذي دوّنه المؤرّخون حول كيفيّة عمل إعلامه المعادي للعلويّين، في جميع أنحاء البلاد - إلى درجة الوصول إلى لعن أمير المؤمنين عليه السلام وجعله سنّةً رائجةً ومتداولة - ومع عدم ظهور النّشاطات البارزة من قِبَل الإمام الحسن والإمام الحسين عليهما السلام، فإنّ وجود مثل هذه الروابط والتّشكيلات كان الأمر الوحيد الّذي جعل تطوّر الفكر الشيعيّ وازدياد عدد الشّيعة في كلّ الحجاز والعراق ممكنًا.

 
عشرون سنة بعد واقعة الصّلح، فلنلقِ نظرةٍ على السّاحة الفكريّة لهذه المناطق. ففي الكوفة، كان يوجد رجالٌ شيعة، هم من أكثر الشّخصيّات والوجوه شهرةً ومعروفيّةً. وفي مكّة والمدينة وحتى في بعض النواحي النائية، كان هناك شيعة كالحلقات المتّصلة الّذين يتناقلون أسرار بعضهم البعض. وعندما يُقتل أحد زعماء الشّيعة ــ حُجر بن عُديّ ــ بعد عدّة سنوات، نسمع صرخات الاعتراض في مناطق عدّة من البلاد، بالرغم من القمع الشديد، ونجد أنّ شخصيّةً معروفةً في خراسان، وبعد هذا الاعتراض الشديد، تموت من شدّة الحزن والأسى . وبعد موت معاوية، يكتب آلاف الأشخاص إلى الإمام الحسين عليه السلام ويُرسلون الكتب ويدعونه إلى الكوفة من أجل الثّورة. وبعد شهادة الإمام عليه السلام، ينضم عشرات الآلاف إلى جماعة الثّائرين ويثورون في واقعة التوّابين أو ينضمّون لجيش المختار وإبراهيم بن مالك ضدّ الحكومة الأمويّة.

 

النّاظر في تاريخ الإسلام يسأل نفسه: هل إنّ رواج الفكر والتّوجّهات الشّيعيّة إلى هذا الحدّ كان ليكون ممكنًا ومعقولًا سوى في ظلّ نشاطٍ محسوبٍ بدقّة لتشكيلاتٍ شيعيّة متّحدة ومنسجمة ومترابطة وذات جهة واحدة ــ أي من جانب تلك التّشكيلات التي استشرف الإمام الحسين ولادتها مباشرةً بعد صلح الإمام الحسن؟ لا شكّ بأنّ الجواب سلبيّ. فالإعلام المستمرّ والدّقيق للجهاز الأمويّ المتسلّط الّذي كان يُدار بواسطة مئات القضاة والقرّاء والخطباء والوُلاة، ما كان ليُجاب عليه، وفي بعض الموارد ليُحبط إلا بوجود إعلامٍ دقيقٍ آخر، يُدار من جانب مجموعة مترابطة ذات جهة واحدة وبالطبع سرّيّة.

 

على مشارف هلاك معاوية، أضحت نشاطات هذه المنظّمة أكثر ووتيرتها أسرع، إلى درجة أنّ والي المدينة كتب إلى معاوية، بعدما حصل على تقريرٍ حول نشاطات الإمام عليه السلام: "أمّا بعد فإنّ عمر بن عثمان - المسؤول المعنيّ، قد أبلغنا أنّ رجالًا من العراق وجماعةً من مشاهير الحجاز، يختلفون إلى الحسين، ومن المظنون أنّه سيقوم. لقد بحثت في هذا الأمر ووجدتُ أنّه - الحسين - بصدد رفع راية المخالفة. فأبلغونا أوامركم ورأيكم" .

 

بعد واقعة كربلاء وشهادة الإمام عليه السلام، أضحت الأنشطة المنظّمة للشّيعة في العراق أكثر رسوخًا وتحرّكًا بدرجات، وهذا هو التّأثير الّذي أوجدته الحالات النفسيّة لشيعة الكوفة، حيث إنّ الكثير منهم كانوا قد أُخذوا على حين غرّة مقابل ضربة جهاز الخلافة ولم يتمكّنوا من إيصال أنفسهم إلى ساحة عاشوراء. وكانت حرقة أسفهم وألمهم واضحةً جليّة.

 

يكتب الطّبريّ المؤرّخ المعروف في ذلك القرن: "تلك الجماعة ــ أي الشّيعة ــ كانوا دائمًا مشغولين بجمع السّلاح وإعداد العدّة للحرب ودعوة النّاس في الخفاء ــ سواء كانوا شيعة أم غير شيعة ــ من أجل ثأر الحسين وقد استجابت لهم جماعة بعد أخرى، والتحقوا بهم، وكان الأمر على هذا المنوال حتّى مات يزيد بن معاوية" .


 
إنّ مؤلّفة "جهاد الشّيعة" تظهر رأيها بشكلٍ صحيح حيث تقول: "ظهرت جماعة الشّيعة بعد شهادة الحسين كجماعة منظّمة تجمعها الروابط السّياسيّة والعقائدية الدينيّة ولديها قادة وقوّات مسلّحة وكانت جماعة التوّابين أوّل مظهر لوجود مثل هذه الجماعة" .

 

وكما يُفهم من مطالعة الأحداث التّاريخيّة، وكذلك آراء هؤلاء المؤرّخين في أحداث عهد معاوية وكذلك الأحداث الّتي تلت شهادة الإمام الحسين عليه السلام، أنّ المبادرات والمشاريع وقيادة هذه الأحداث كانت فقط بيد الشّيعة ومنحصرة بهم، وإلا فقد كان هناك الكثير من النّاس العاديين، الّذين بسبب دوافعهم الإنسانيّة أو سخطهم على جهاز الحكم الأموي أو لدوافع وأسبابٍ أخرى يشاركون الشّيعة من النّاحية العمليّة وينضمّون إليهم في ميادين القتال أو في التحرّكات الّتي كانت ذات صبغة شيعيّة. لهذا، لا ينبغي أن يُتصوّر أنّ جميع الّذين شاركوا في هذه الأحداث المختلفة في ذلك المقطع التّاريخيّ وكان لهم أدوار فعّالة أو عاديّة، كانوا في عداد الشّيعة، أو في التّشكيلات المنظّمة والدّقيقة للأئمّة عليهم السلام.

 

النقطة الّتي أُريد أن أؤكّد عليها مع التّوضيح المذكور آنفًا، هي أنّه وإلى هذا العصر الّذي نبحث بشأنه - أي بعد شهادة الإمام الحسين عليه السلام- فإنّ اسم ومصطلح الشّيعة كان يُطلق فقط على أولئك الّذين كان لديهم رابطة محكمة ومحدّدة مع الإمام الحقّ من الناحية الفكريّة والعمليّة مثل عصر أمير المؤمنين عليه السلام. هذه الجماعة هي الّتي كانت بعد صلح الإمام الحسن عليه السلام قد أوجدت، وبأمرٍ من هذا الإمام عليه السلام، تلك التشكيلات الشّيعيّة المترابطة، وهؤلاء أنفسهم هم الّذين استقطبوا، بواسطة إعلامهم وتبليغهم الواسع والعميق، أشخاصًا إلى داخل هذه التّشكيلات وجرّوا إلى الأحداث الشّيعيّة المزيد من أولئك الّذين ما كانوا من ناحية الفكر والأيديولوجية منسجمين ومشابهين لهم. لا شكّ بأنّ الرواية الّتي نقلناها في البداية عن كلام الإمام الصادق عليه السلام - الّذي جعل جماعة المؤمنين لا تعدو ثلاثة أو خمسة أنفار - ناظرةٌ إلى هذا الصنف من النّاس، أي الشّيعة والأتباع الرّاسخين للأئمّة، أولئك الّذين كان لهم دورٌ واعٍ ومصيريّ في حركة وسير الثّورة العلويّة والهاشميّة التّكامليّة. فعلى أثر سعي الإمام السّجّاد السريّ والهادئ بالظّاهر، استعاد هذا الجمع عناصره المستعدّة الكامنة وجذبها ووسّعها مثلما قال الإمام الصادق عليه السلام في تلك الرواية الّتي أشرنا إليها الآن، "إنّ النّاس لحقوا وكثروا" . وفي عصر الإمام السجّاد، والإمام الباقر، والإمام الصادق عليهم السلام، هذا الجمع هو الّذي كان يُخيف زعماء نظام الخلافة دائمًا بتحرّكاته المشبوهة، ويدفعهم أحيانًا إلى القيام بردود فعلٍ عنيفة.

 

بعبارةٍ موجزة، لم يكن يُطلق اسم الشّيعة في الثّقافة الشيعيّة وكذلك في الفهم والإدراك والذهنيّة غير الشيعيّة، في القرون الأولى للإسلام وفي زمان الأئمّة عليهم السلام، على الشخص الّذي يكتفي بمحبّة عترة النبيّ أو يعتقد فقط بحقّانيّتهم وصدق دعوتهم - وإن لم يكونوا يشاركون في دائرة النّشاط والتحرّك الّذي كان الإمام مركزه ومحوره - بل بالإضافة إلى ذلك كان التشيّع يحمل شرطًا أساسًا وحتميًّا هو عبارة عن: "الارتباط الفكريّ والعمليّ مع الإمام والمشاركة في الأنشطة الّتي كان يبادر إليها الإمام ويقودها نحو استرجاع الحقّ المغصوب وتشكيل النّظام العلويّ والإسلاميّ على كافّة المستويات الفكريّة والسّياسيّة وأحياناً العسكريّة".

 

هذا الارتباط هو ذاك الّذي يُسمّى في الثقافة الشّيعيّة بـ "الولاية". في الواقع، إنّ التشيّع كان عنوانًا لحزب الإمامة، حزبٌ يقوم بنشاطات معيّنة بقيادة الإمام ومثل كلّ الأحزاب والمنظّمات المعارضة في عصور القمع يتحرّك بالتقيّة والاستتار. هذه عصارة النّظر الدّقيق إلى حياة الأئمّة وخصوصًا الإمام الصادق عليه السلام. ومثلما قلنا سابقًا، إنّ هذا ليس بالأمر الّذي يمكن الجلوس وانتظار الأدلّة الصّريحة لإثباته، لماذا؟ لأنّه لا ينبغي ولا يمكن أن نتوقّع أبدًا أن يُكتب على بيتٍ سرّيّ يافطة: "هذا منزلٌ سرّي". هذا وإن لم يكن اعتبار وجوده مسلّمًا من دون القرائن الحتميّة. فمن الجدير، عندئذٍ أن نذهب للبحث عن القرائن والشواهد والإشارات.

(قيادة الإمام الصادق عليه السلام، ص 97-107)

 


المصدر: كتاب إنسان بعمر 250 سنة، للامام الخامنئي، الفصل العاشر: الإمام الصادق (ع)

2025-04-18 | 19 قراءة