
إنّ وجود أمير المؤمنين عليه السلام يُعدّ درسًا خالدًا لا يُنسى لكلّ الأجيال البشريّة، من جهاتٍ عدّة وفي الظّروف والأوضاع المختلفة، سواءٌ في عمله الفرديّ والشخصيّ أم في محراب عبادته أم في مناجاته أم في زهده أم في فنائه في ذكر الله، أم في جهاده مع النفس والشّيطان والدوافع النفسانية والمادية.
ما زالت كلمات أمير المؤمنين عليه السلام تصدح وتملأ آفاق عالم الخلقة والحياة الإنسانيّة: "يا دنيا... غرّي غيري" . أيّتها الزخارف الدنيويّة والزبارج المليئة بالجاذبيّة وكلّ أنواع الزبارج التي تجذب أقوى البشر، اذهبي إلى شخصٍ آخر لتخدعيه، إنّ عليًّا أكبر وأقوى وأسمى من هذه الأمور. لهذا يجد كلّ إنسانٍ صاحٍ دروسًا لا تُنسى في كلّ لحظات حياة أمير المؤمنين عليه السلام وفي ارتباطه بالله وإيمانه به.
وفي البعد الآخر أيضًا، في جهاده لأجل رفع خيمة الحقّ وإقامة العدالة، أي منذ ذلك اليوم الّذي حمل فيه النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ثقل الرّسالة على عاتقه، ومن السّاعات الأولى، وجد إلى جانبه شخصًا مجاهدًا مؤمنًا مضحّيًا - كان ما زال في بداية عهده وشبابه - وهو عليٌّ عليه السلام. وإلى آخر ساعات حياة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم المباركة، لم يتوقّف أمير المؤمنين عليه السلام لحظةً واحدةً عن الجهاد في طريق إقامة النّظام الإسلاميّ، وفيما بعد من أجل الحفاظ عليه.
فكم جاهد وكم خاطر بنفسه وكم ذاب في طريق الجهاد من أجل إقامة الحقّ والعدل؟ هناك عندما لم يكن يصمد أحدٌ في الميدان، كان يبقى. هناك عندما لم يكن يجرؤ أحدٌ على الإقدام كان يقدم. هناك عندما كانت الصّعاب كالجبال الرّواسي تنهال على رؤوس المجاهدين في سبيل الله، كانت قامته الشّامخة تمنح الآخرين العزم والطّمأنينة. بالنسبة له، كان معنى الحياة هو أن يستفيد من الإمكانات الّتي منحه الله إيّاها من القوّة الجسمانيّة والروحيّة والعاطفيّة وغيرها من أجل إعلاء كلمة الحقّ وإبقاء الحقّ حيًّا. وبقدرة وإرادة عليّ وعضده وجهاده بقي الحقّ حيًّا.
إذا كانت مفاهيم الحقّ والعدل والإنسانيّة، وغيرها من المفاهيم الّتي لها قيمة إنسانية بالنسبة لأصحاب الفهم في هذا العالم، قد بقيت وازدادت قوّة ورسوخًا يومًا بعد يوم، فذلك بسبب تلك المجاهدات والتّضحيات. لو لم يكن أمثال عليّ بن أبي طالب عليه السلام- والّذين هم عبر تاريخ البشريّة قلّة نادرة ـ لما كان اليوم من وجود لأيّ قيمة إنسانيّة، ولما كانت هذه العناوين الجذّابة للنّاس تمتلك أيّ جاذبية، ولما كان للبشر حياةٌ وحضارةٌ وثقافةٌ وآمالٌ وقيمٌ وأهدافٌ ساميةٌ، ولتبدّلت البشريّة إلى حيوانيّة وحشيّة وسبعيّة. إنّ البشريّة مرتهنة لأمير المؤمنين عليه السلام ولكلّ إنسانٍ بلغ من السموّ مرتبته في حفظ المفاهيم السّامية. إنّ كلّ ذلك الجهاد ترك هذا الأثر.
البعد الآخر من حياة أمير المؤمنين عليه السلام هو ميدان الحكومة. عندما تسلّم هذا الإنسان، صاحب الفكر العميق والشّخصيّة العظيمة، الحكومة في نهاية الأمر، قام بأعمالٍ في ذلك العهد المختصر، لو قام المؤرّخون والكتّاب والفنّانون ولسنواتٍ طويلة بالكتابة عنها وتجسيدها وتصويرها لما قالوا إلا القليل. كان وضع حياة أمير المؤمنين عليه السلام في عصر حكومته قيامة. أصلًا، لقد بدّل عليّ معنى الحكومة.
إنّه تجسيدٌ للحكومة الإلهية، وتجسيدٌ للآيات القرآنية بين المسلمين، وتجسيدٌ لـ ﴿أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ﴾ ، وتجسيدٌ للعدل المطلق. كان يُقرّب المساكين ويعتني بالضعفاء عنايةً خاصّة، وكان الوجهاء، الّذين يفرضون أنفسهم بغير حقّ بواسطة المال والسّلطة وغيرها من الوسائل، كانوا في نظر عليٍّ هم والتراب على حدٍّ سواء. والّذي كان في نظره وقلبه ذا قيمة، هو الإيمان والتقوى والإخلاص والجهاد والإنسانيّة. وبهذه المباني القيّمة حكم أمير المؤمنين عليه السلام أقلّ من خمس سنوات. لقد مضت قرون وهم يكتبون عن أمير المؤمنين عليه السلام، ولم يكتبوا إلّا القليل، ولم يستطيعوا أن يُصوّروا الأمر تصويرًا صحيحًا، وأفضلهم يعترفون بعجزهم وتقصيرهم.
(30/01/1991)
إنّ أعظم خصائصه هي التّقوى. فنهج البلاغة هو كتاب التقوى، وحياته طريق وسبيل التقوى.
(08/01/1999)
فهذه الآية الشّريفة: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ﴾ نزلت في أمير المؤمنين. وتأويل هذه الآية هو عليّ بن أبي طالب عليه الصلاة والسّلام. تقول الآية إنّ من بين النّاس من يبيع نفسه ووجوده، أي أعزّ ما عند الإنسان، هذا الرّأسمال العزيز الوحيد الّذي لا يُمكن جبرانه - بحيث إنّك لو قدّمته لن يكون بعدها عنه بديل. فبعضٌ يُقدّم هذا الرأسمال وهذا الوجود دفعةً واحدة من أجل الحصول على رضا الله لا غير، ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي﴾ أي يبيع نفسه ويُقدّم وجوده ﴿ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ﴾، فلا يوجد في البين أيّ هدفٍ آخر أو أيّ مقصدٍ دنيويّ أو أيّ دافعٍ ذاتيّ، بل فقط وفقط جلب رضا الله. وفي مقابل مثل هذا الإيثار وهذه التضحية، فإنّ الله لا يُمكن أن يكون من دون ردّ فعل يُناسبها، ﴿وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ﴾ ومصداقه الكامل هو أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام. وسوف أُبيّن هذا البعد.
الناظر إلى تاريخ حياة أمير المؤمنين عليه السلام، منذ الطفولة، ومنذ ذلك الوقت الّذي كان فيه في سنّ التاسعة أو الحادية عشرة، يرى أنّه كان قد آمن بنبوّة الرّسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأدرك الحقيقة بوعيٍ تامّ وتمسّك بها، ومنذ تلك اللحظة وإلى حين لحظة محراب العبادة، سحر يوم التاسع عشر من شهر رمضان، قدّم نفسه في سبيل الله فرحًا مسرورًا مليئًا بالشّوق إلى لقاء ربّه. فطوال هذه السّنوات الخمسين تقريبًا أو أكثر، منذ سنّ العاشرة وحتى سن الـ 63، يُرى أنّ هناك خطًّا واحدًا مستمرًّا يشرح ويُبيّن حياة أمير المؤمنين عليه السلام، وهو خطّ الإيثار.
وفي كلّ القضايا الّتي مرّت عليه عليه السلام طيلة هذا التاريخ الممتدّ لـ 50 سنة، تظهر علائم الإيثار من البداية وحتّى النّهاية. وهذا في الحقيقة درسٌ وعبرةٌ لنا. ونحن، الّذين نتحدّث عنه ونبحث عنه ونُعرف في العالم بمحبّته، يجب علينا أن نأخذ هذا الدرس منه عليه السلام، فمجرّد الحبّ لا يكفي، ومجرّد معرفة فضيلة عليّ لا تكفي.
كان هناك من يعترف في قلبه بفضائل علي بن أبي طالب عليه السلام، ولعلّهم أكثر منّا نحن الّذين يفصلنا عنه 1400 سنة، هؤلاء أو بعضهم كانوا يُحبّون عليًّا من القلب كإنسانٍ معصومٍ ومنزّه، أمّا سلوكهم فكان سلوكًا مختلفًا. لأنّه لم يكن لديهم تلك الخاصيّة نفسها، وذلك الإيثار نفسه، وترك الذّات نفسه، وترك العمل من أجل الذّات نفسه، فكانوا ما زالوا عالقين في سجن النفس. أمّا امتياز عليّ فكان بأنّه لم يقع في أسر النّفس. لم يكن للـ "أنا" مكان عنده، بل ما كان له مكان عنده كان التكليف والهدف والله والجهاد في سبيل الله.
لقد تحمّل أمير المؤمنين الأذى والسخرية منذ بداية إيمانه بالنبيّ، وعندما كان ما زال في مرحلة الطّفولة. تصوّروا مدينةً يستخدم أهلها العنف بشكل طبيعيّ، ولم يكونوا متحضّرين ووقورين ولائقين، قومٌ يتشاجرون عند أدنى مسألة، وشديدو التعصّب لتلك العقائد الباطلة، في مثل ذلك المجتمع، طُرحت رسالة من إنسانٍ عظيم جعلت كلّ شيء في ذلك المجتمع مورد تشكيك، على مستوى العقائد والآداب والتقاليد، فمن الطبيعيّ أن ينهض الجميع وبكلّ طبقاتهم، حتّى عوام النّاس، لمخالفة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. فحتّى يقوم شخص بالدّفاع عن هكذا إنسان وعن هكذا رسالة، بكلّ وجوده ويقوم باتّباعه، فإنّ ذلك يتطلّب نكران الذّات. وكانت هذه خطوة أمير المؤمنين الأولى في نكران الذّات.
وقف عليّ بن أبي طالب عليه السلام لمدّة 13 سنة إلى جانب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وفي أصعب المواطن. صحيحٌ أنّ هجرة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كانت اضطراريّة وتحت الضّغط المتواصل لقريش وأهل مكّة، لكنّها كانت ذات مستقبلٍ مشرق. فالجميع كان يعلم أنّ هذه الهجرة هي مقدّمة النّجاحات والانتصارات. هناك عندما تتجاوز أيّ نهضةٍ مرحلة المحنة لتدخل في مرحلة الرّاحة والعزّة، هناك عندما يكون الجميع منشغلًا بحسب العادة لكي يوصلوا أنفسهم أسرع من غيرهم علّهم يأخذون من المناصب الاجتماعيّة شيئًا وينالون موقعيّةً، في تلك اللحظة بالذّات، كان أمير المؤمنين عليه السلام مستعدًّا لأن ينام مكان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في فراشه في تلك الليلة المظلمة الحالكة، حتّى يتمكّن الرّسول من الخروج من منزله ومن هذه المدينة.
في تلك الليلة، كان مقتل من ينام في ذاك الفراش أمرًا شبه قطعيّ ومسلّمًا به. كوننا نحن نعلم ما حدث، ونعلم أنّ أمير المؤمنين لم يُقتل في تلك الحادثة، هذا لا يعني أنّ الجميع في تلك الأثناء كان يعلم ذلك، كلّا، فالقضيّة كانت أنّه في ليلةٍ حالكة، وفي لحظة معيّنة، كان من المقرّر أن يُقتل شخصٌ حتمّا. كان يُقال أنّه ومن أجل أن يخرج هذا السيّد من هنا ينبغي أن يكون هناك شخصٌ آخر مكانه حتّى يشعر الجواسيس، الّذين يُراقبون، بأنّه ما زال هناك، فمن هو المستعدّ لذلك؟ هذا هو إيثار أمير المؤمنين عليه السلام الّذي يُعدّ بذاته حادثةً استثنائية من حيث الأهمّية. لكنّ توقيت هذا الإيثار يزيد من أهميّته. ففي أيّ وقتٍ كان ذلك؟ في الوقت الذي كان متوقّعًا أنّ تصل فيه هذه المحنة إلى نهايتها، وأن يذهبوا لتشكيل الحكومة، وأن يكونوا مرتاحين، وأهل يثرب قد آمنوا وينتظرون النبيّ. الكلّ كان يعلم ذلك. في مثل هذه اللحظة، يقوم أمير المؤمنين عليه السلام بهذا الإيثار، فلا ينبغي أن يكون هناك أيّ دافعٍ شخصيّ في مثل هذا الإنسان، حتّى يقدم على مثل هذه الحركة العظيمة.
وبعدها يأتي إلى المدينة وتبدأ المعارك والقتال المتواصل لحكومة النبيّ الفتيّة. فالمعارك والحروب كانت دائمة، هكذا كانت خاصيّة تلك الحكومة. كان هناك مواجهات دائمة، بدأت قبل معركة بدر، واستمرّت على مدى السنوات العشر تلك، وإلى آخر حياة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، خاض فيها النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم عشرات المعارك والمواجهات مع الكفّار على مختلف أنواعهم وأقسامهم وشُعَبِهِم.
وفي كلّ هذه المراحل، كان أمير المؤمنين عليه السلام حاضرًا ليكون أوّل من يتصدّى وأكثر النّاس تضحيةً وفداءً واستعدادًا للموت بين يديّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، كما بيّنه أمير المؤمنين عليه السلام نفسه، وأظهره التاريخ في جميع هذه المراحل والميادين المهولة: "ولقد واسيته بنفسي في المواطن الّتي تنكص فيها الأبطال وتتأخّر فيها الأقدام" .
وقف أمير المؤمنين عليه السلام في أشدّ اللحظات حرجًا وما كان يلوي على شيء أو يقول إنّ هناك خطرًا. بينما كان بعض النّاس يُفكّر في نفسه والحفاظ عليها بحجّة أن يكون مفيدًا للإسلام فيما بعد. ولم يخدع أمير المؤمنين عليه السلام نفسه أبدًا بمثل هذه المعاذير، ولم تكن نفسه السّامية لتُخدع. ففي جميع مراحل الخطر كان أمير المؤمنين عليه السلام حاضرًا في الخطوط الأماميّة.
(08/01/1999)
المصدر: كتاب إنسان بعمر 250 سنة، للامام الخامنئي، الفصل الثالث: الإمام علي (ع)