
إنّ أشدّ مراحل حياة أمير المؤمنين عليه السلام، بنظري، قد بدأت في هذه السنوات الثلاثين، أي بعد انتهاء عصر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وارتحاله عن هذه الدنيا. كانت تلك الأيّام، أصعب مراحل حياة أمير المؤمنين عليه السلام، ففي تلك الأيّام الّتي كان النبيّ العزيز صلى الله عليه وآله وسلم موجودًا فيها وكان (أمير المؤمنين) يذهب ويُجاهد في كنفه، كانت الأيّام جميلةً وعذبة. في تلك الأيام المرّة، والأيام التي تلت ارتحال النبيّ الأكرم والتي كانت أيّامًا نادرةً، كانت قطع الليل المظلم للفتنة تسدّ آفاق الرّؤية أمام الأعين، بحيث لا يستطيع أولئك الذين كانوا يريدون أن يسيروا بالاتّجاه الصحيح أن يخطوا خطوةً واحدة، في ظلّ مثل هذه الظرّوف نجح أمير المؤمنين عليه السلام في أعظم امتحانات الإيثار.
أوّلًا، أوّل ما حضرت الوفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كان أمير المؤمنين عليه السلام منشغلًا بأداء التكليف، لا أنّه لم يكن يعلم بوجود اجتماعٍ ومن الممكن أن يُحدّد فيه مصير السّلطة والحكومة في العالم الإسلامي، فلم تكن هذه هي قضيّة أمير المؤمنين، ولم تكن القضيّة بالنسبة له قضيّة "الأنا". فبعد أن استقرّت مسألة الخلافة، وبايع النّاس أبا بكر وانتهى كلّ شيء، انزوى أمير المؤمنين عليه السلام، ولم يُسمع منه أيّ كلمةٍ أو موقفٍ يحكي عن معارضته للجهاز الحاكم.
لقد سعى في الأيّام الأولى لعلّه يتمكّن من إحقاق ما يراه بحسب عقيدته حقًّا، وممّا ينبغي القيام به. وعندما رأى الأمر خلاف ذلك، وأنّ النّاس قد بايعوا وانتهت القضيّة، وأضحى أبو بكر خليفة المسلمين، هنا نجد أنّ أمير المؤمنين عليه السلام، عُرف عبر التّاريخ كشخص، وإن كان معارضًا لكنّه لم يبدر منه أيّ خطر أو تهديد على الجهاز الحاكم، وبأيّ كيفيّة كانت.
لقد قال أمير المؤمنين عليه السلام في هذه المرحلة - والّتي لم تكن مديدة، لعلّها لم تكن أكثر من عدّة أشهر ــ لقد علمتم أنّي أحقّ النّاس بها من غيري ويقصد الخلافة. "ووالله لأسالمنّ ما سلمت أمور المسلمين"، ـ فما دمتُ أرى أنّه لا يُظلم أحد، "ولم يكن فيها جورٌ إلا عليّ خاصّة" ، فإنّني لن أقوم بأيّ عملٍ ولن أعارض أبدًا.
وبعد مدّةٍ وجيزة، لا تزيد على عدّة أشهر، بدأ ارتداد بعض الجماعات، ولعلّها كانت مدفوعةً لذلك، حيث شعرت بعض القبائل العربية أنّه طالما لا يوجد نبيّ ولا يوجد قائد للإسلام، فلا بأس أن يختلقوا إشكالات وأن يُعارضوا ويُحاربوا ويُثيروا القلاقل، ولعلّ ذلك كان بتحريكٍ من المنافقين، فنشأ تيّار الردّة ــ أي ارتداد مجموعة من المسلمين ــ وبدأت حروب الردّة. وهنا حيث أصبح الوضع على هذا النّحو، رأى أمير المؤمنين عليه السلام أنّ الأمر لم يعد يحتمل الجلوس وعليه أن ينزل إلى الميدان للدّفاع عن الحكومة. هنا يقول: "فأمسكت يدي"، ويقصد ما جرى في قضيّة الخلافة وصيرورة أبي بكر خليفةً للمسلمين، "أمسكت يدي" وجلست جانبًا. كانت هذه حالة اختيار الانزواء، "حتّى رأيت راجعة النّاس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمّد صلى الله عليه وآله وسلم"، رأيت أنّ جماعةً من النّاس قد ارتدّوا عن الإسلام ويريدون محو الإسلام، هنا نزلت إلى الميدان. لقد دخل أمير المؤمنين الميدان بصورةٍ فعّالة، وهكذا كان في جميع القضايا الاجتماعيّة المهمّة.
ويصف أمير المؤمنين عليه السلام حضوره في مرحلة الـ 25 سنة من خلافة الخلفاء الثّلاثة، بالوزارة، فعندما جاؤوا إليه بعد مقتل عثمان وبايعوه بالخلافة، قال: "وأنا لكم وزيرًا خيرٌ لكم منّي أميرًا" . أي كما كنت لكم في السّابق دعوني كذلك. فقد كان مقامه وموقعيّته طوال الـ25 سنة موقعيّة الوزارة، أي أنّه كان في خدمة الأهداف دومًا، وكان يُعين المسؤولين والخلفاء الّذين كانوا على رأس الأمور حيث يلزم، ومثل هذا يُعدّ إيثارًا لا مثيل له، يحيّر الإنسان في الواقع ويجعله يُفكّر كم أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان مؤثرًا في حياته.
وخلال الـ 25 سنة هذه، لم يُفكّر أبدًا بالقيام والانقلاب والمعارضة وجمع العدّة والإمساك بالسّلطة والسّيطرة على الحكومة. مثل هذه الأمور تأتي على أذهان النّاس. عندما ارتحل الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم عن الدنيا كان عمر أمير المؤمنين عليه السلام نحو 33 سنة. وبعدها فإنّ كل المسائل الجذّابة التي كان من الممكن أن تتوفّر لإنسان، كانت موجودة في أمير المؤمنين ولكن على نحوٍ أعلى وأسمى، من مراحل شبابه وقدرته الجسمانيّة ومرحلة نشاطه، إلى الوجاهة والمحبوبيّة بين عموم النّاس، إلى الذّهن الوقّاد والعلم الوفير. فلو أراد أن يقوم بأيّ عملٍ لاستطاع ذلك. إلا أنّ أمير المؤمنين عليه السلام، على مدى الـ 25 سنة هذه، لم يُسمع منه أيّ شيء، ولم يقم بأيّ تحرّك إلّا من أجل خدمة تلك الأهداف العامّة والكليّة للنظام الإسلاميّ الّذي كان أولئك الخلفاء على رأسه. وكان هناك أحداثٌ عظيمةٌ استثنائية، ولا أريد الآن أن أدخل هنا في شرح الموارد التاريخية.
وبعد موت الخليفة الثّاني، دُعي أمير المؤمنين عليه السلام إلى الشّورى المتشكّلة من ستة أشخاص، فلم ينزعج ودخل في الشّورى. لم يقل إنّ هؤلاء ليسوا من مستواي، فأين طلحة والزبير وأين عبد الرحمن بن عوف وأين عثمان وأين أنا؟ وطبقًا لوصيّة عمر، فقد جعلوا ستة أشخاص بعنوان الشّورى من أجل أن ينتخبوا من بينهم خليفةً. وكان حظّ أمير المؤمنين بالخلافة من بين هؤلاء الستّة هو الأوفر. وكان رأي عبد الرحمن بن عوف هو الرأي الفاصل. فقد كان لأمير المؤمنين صوتان هو والزبير، وكان لعثمان صوتان هو وطلحة، وكان لعبد الرحمن بن عوف صوتان هو وسعد بن أبي وقّاص، وكان صوت عبد الرحمن بن عوف هو الصّوت الفاصل. فلو بايع أمير المؤمنين عليه السلام لصار هو الخليفة، ولو بايع عثمان لصار هو الخليفة. هنا توجّه (عبد الرحمن بن عوف) إلى أمير المؤمنين عليه السلام وسأله إن كان يعمل بكتاب الله وسنّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وسيرة الشيخين، أي الخليفتين السابقين. فقال عليه السلام : كلّا، إنّني أعمل بكتاب الله وسنّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، لقد كان من الممكن لأمير المؤمنين أن يحصل على الحكومة ويُمسك بزمام السّلطة، لو أنّه تغاضى بأقلّ قدرٍ ممكن عمّا هو صحيحٌ وحقّ. لكنّ أمير المؤمنين عليه السلام لم يُفكّر بذلك لحظةً واحدةً، ففقد الحكومة وخسر السّلطة. وهنا قد آثر ولم يطرح نفسه وإنّيته أبداً، بل جعلها تحت قدميه. وما كانت مثل هذه المشاعر لتبرز في أمير المؤمنين عليه السلام من الأساس.
وبعد مرور 12 سنة من حكومة عثمان، كثُرت الاعتراضات عليه في نهاية الأمر، وبدأ النّاس يُخالفونه ويعترضون عليه كثيرًا، وتقاطروا من مصر ومن العراق ومن البصرة ومن أماكن أخرى، وفي النّهاية تشكّل جمعٌ كبير وحاصروا بيت عثمان وهدّدوه. هنا ماذا يُمكن أن يفعل أيّ إنسان في موضع أمير المؤمنين عليه السلام؟ ذاك الّذي يرى نفسه صاحب حقٍّ بالخلافة، وكان لمدّة 25 سنة يتغاضى عن حقّه وهو يعترض على سلوك الحاكم الحالي، ها هو الآن يرى بيت هذا الخليفة محاصرًا. فالشخص العاديّ بل حتّى النخب والوجهاء ماذا يفعلون في مثل هذه الحالة؟ نفس العمل الّذي قام به الآخرون، نفس ما فعله كلّ من طلحة والزبير وغيرهم، وكلّ الآخرين الّذين كان لهم في قضية عثمان ما كان. إنّ قضية قتل عثمان هي من الأحداث المهمّة جداً في تاريخ الإسلام، ويُمكن للإنسان أن يُشاهد في نهج البلاغة وفي الآثار وفي التاريخ الإسلاميّ ما الّذي أدّى إلى مقتل عثمان، ليتّضح له بشكلٍ كامل من الّذي قتل عثمان ومن الّذي دفع إلى قتله. أولئك الّذين كانوا قد جعلوا ادّعاء محبّة عثمان فيما بعد محور تحرّكاتهم، هنا طعنوه من الخلف، وكانوا يُحرّكون الأمور من وراء الكواليس. سألوا عمرو بن العاص من الّذي قتل عثمان، فقال: فلانٌ ــ وذكر اسم أحد الصحابة ــ هو الّذي صنع سيفه، والآخر أحدّه، والثالث سمّه، وذاك طعنه به. الواقع هو هذا.
نجد أنّ أمير المؤمنين عليه السلام في هذه الحادثة يقوم بكمال الإخلاص بما يراه تكليفًا إلهيًّا وإسلاميًّا، فيُرسل كلّاً من الحسن والحسين عليهما السلام، هاتين الجوهرتين العظيمتين وبقيّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، إلى بيت عثمان من أجل الدّفاع عنه. كان المخالفون يُحاصرون بيت عثمان ويمنعون دخول الماء إليه، وكان أمير المؤمنين عليه السلام يُرسل له الماء والطعام ويُفاوض مرّاتٍ ومرّات أولئك الّذين غضبوا على عثمان، لعلّه يُهدّئ من روعهم. وعندما قتلوا عثمان غضب أمير المؤمنين عليه السلام.
هنا أيضًا، نجد أنّه لا يُمكن أن نُشاهد في أمير المؤمنين عليه السلام أيّ حالة من الإنّية وحبّ الذّات ومشاعر الأنا الّتي يُمكن أن توجد في كلّ فرد من النّاس. فبعد أن قُتل عثمان كان من الممكن لأمير المؤمنين عليه السلام أن ينزل إلى الميدان كوجهٍ وجيه، وكشخصٍ انتهازيّ وكمخلّص، ويقول أيّها النّاس ها أنتم قد ارتحتم أخيرًا وتخلّصتم من المشكلة، وكان النّاس سيُحبّونه، لكنّه لم يفعل، فبعد حادثة عثمان، لم يتحرّك أمير المؤمنين عليه السلام نحو السّلطة والإمساك بالحكومة. فما أعظم هذه الرّوح: "دعوني والتمسوا غيري" ، أيّها النّاس اتركوني واذهبوا إلى شخصٍ آخر. ولو اخترتم شخصًا آخر فإنّني سأكون له وزيرًا وأُعينه. هذه هي تصريحات أمير المؤمنين عليه السلام في تلك الأيّام. لكنّ النّاس لم يقبلوا ولم يستطيعوا أن ينتخبوا شخصًا آخر للحكومة غير أمير المؤمنين.
المصدر: كتاب إنسان بعمر 250 سنة، للامام الخامنئي، الفصل الثالث: الإمام علي (ع)