
نورد هنا نماذج من أعمال أمير المؤمنين عليه السلام تجلّت فـي كلمات هذا العظيم. وهناك آلاف الأمثلة الأخرى فـي حياته. جاء النّاس وأصرّوا وبايعوا، لكنّه لم يوافق. وازداد إصرار جميع النّاس، من أكابر وصغار ورؤساء وصحابة قدماء، فقالوا جميعًا: كلّا، لن يكون غير عليّ بن أبـي طالب عليه السلام ولن يستطيع ذلك سواه. جاؤوا وأخذوا الإمام مصرّين. فقال الإمام عليه السلام: إذًا فلنذهب إلى المسجد. ارتقى الإمام المنبر، وألقى خطبة أوضح فيها آراءه، فقال: الأموال الّتي استحوذ عليها الخواصّ والوجهاء من دون وجه حقّ سأُعيدها إلى بيت المال أينما وجدّتها. حيث استطاع بعض الأشخاص خلال تلك السّنوات مصادرة أموال من بيت المال لصالحهم. فقال سأُعيد كلّ هذه الأموال: "لو وجدّته قد تُزوّج به النساء"، أي أنّكم جعلتم تلك الأموال مهورًا لنسائكم، أو "مُلك به الإماء" واشتريتم بها الجواري لحريمكم "لرددّته" وأعدّته إلى بيت المال. ليعلم النّاس والأكابر أنّ هذه هي طريقتي.
بعد أيّامٍ بدأت المعارضات، وكان المستضعفون من النّاس والطّبقة المضطَّهدة فـي المجتمع يتمنّون من الله أن يُتّبع مثل هذا المنهج، أمّا أصحاب النّفوذ والمخاطبون الحقيقيّون بهذا الكلام فمن البديهيّ أن يسخطوا. فجلسوا وعقدوا اجتماعًا وقالوا: ما هذا الّذي يريد عليّ صنعه؟ قام الوليد بن عقبة ــ وهو نفسه الّذي كان والي الكوفة في زمن عثمان ــ وجاء إلى أمير المؤمنين عليه السلام، نيابةً عنهم، فقال له: يا عليّ! إنّ لبيعتنا إيّاك شروطًا، "ونحن نُبايعك اليوم على أن تضع عنّا ما أصبناه من المال فـي أيّام عثمان" ، شرطنا هو أن لا تنال من الأموال الّتي حصلنا عليها وتترك لنا ما كسبناه خلال العهد الّذي سبقك. ومن بعد الوليد بن عقبة، جاءه طلحة والزبير. الوليد بن عقبة، بالطّبع، يختلف عن طلحة والزبير. فالوليد بن عقبة كان فـي الحقيقة من حديثي العهد بالإسلام، وكانت عائلته ضدّ الإسلام ومعارضة للثّورة وقد حاربت الإسلام. وبعد ذلك حين ساد الإسلام، فـي نهاية عهد النبيّ، دخل فـي الإسلام كغيره من بنـي أميّة.
أمّا طلحة والزبير فكانا من السّابقين في الإسلام ومن أعوان الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم المقرّبين. جاء طلحة والزبير أيضًا ــ وهما يومذاك من أكابر الإسلام ومن البقية الباقية لأصحاب الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم ــ إلى أمير المؤمنين عليه السلام، وتكّلما كلامًا فيه عتاب، منه قولهم: "إنّك جعلت حقّنا فـي القَسْم كحقّ غيرنا".
فقد ساويت بيننا وبين غيرنا فـي تقسيم بيت المال. "وسوّيت بيننا وبين من لا يُماثلنا"، ساويت فـي منح أموال بيت المال بيننا وبين من هم ليسوا مثلنا، فأيّ قسمة هذه؟ لماذا لا تُقرّر امتيازات معيّنة؟ "من لا يُماثلنا فـي ما أفاء الله تعالى بأسيافنا ورماحنا" هذه خيرات استُحصلت بأسيافنا. نحن الّذين رفعنا الإسلام، نحن الّذين بذلنا الجهود والمساعي، وإذا بك تساوينا بالجُدد والأعاجم ومن جاؤوا من البلدان المفتتحة.
لم يُسجّل لنا التّاريخ جواب أمير المؤمنين عليه السلام للوليد بن عقبة، لكنّه أجاب الآخرين. صعد الإمام المنبر وأجابهم جوابًا شديدًا. قال بشأن قضيّة المساواة فـي تقسيم بيت المال: "فإنّ ذلك أمر لم أحكم فيه بادئ بدء"، فلست أنا من أسّس لهذه الطريقة وهذا المنهج، "بل وجدتُ أنا وأنتما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحكم بذلك" ، لم أجئ بأسلوبٍ جديد من عندي، إنّما أتّبع الفعل الّذي كان يأتي به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. أريد تكريس تلك القيم والقواعد الاعتقادية والسّلوكيّة في المجتمع، في هذا العصر. وقد كرّسها الإمام عليّ عليه السلام وكان يفعل. وقد دفع أمير المؤمنين عليه السلام ثمن ذلك أيضًا.
فكان ثمن هذا العمل أن نشبت ثلاثة حروب. وقف أمير المؤمنين عليه السلام. ومن البديهيّ أنّه كان يرى لنفسه حقّ الخلافة. ولكن لم يكن الأمر على هذا النّحو بعد رحيل الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يتحرّك على مدى خمس وعشرين سنة من أجل الشّيء الّذي كان يعلم أنّه حقّه. وإذا كان هناك من يريد التحدّث بالأمر، كان يُهدّئه، "إنّك لقلق الوضين ترسل في غير سدد،... دع عنك نهبًا صيح في حجراته" . لم تصدر عنه ردود فعل إزاء تلك القضيّة على مدى خمس وعشرين سنة.
لكنّ أمير المؤمنين عليه السلام تحمّل عبء ثلاثة حروب ــ حرب الجمل، وحرب صفّين، وحرب النهروان ــ مقابل قضيّة تبدو في الظاهر أقل من تلك القضيّة ــ وهي قضية العدالة الاجتماعيّة، وقضيّة إحياء الأصول النبويّة، وإعادة تشييد الصّرح الإسلامي المتين الذي أرسى دعائمه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. فكم كانت هذه القضيّة مهمّة بالنسبة لأمير المؤمنين عليه السلام! وهذا هو الإنجاز العظيم الّذي نهض به أمير المؤمنين عليه السلام.
وله فـي هذا المجال كلمة أخرى، يقول فيها: "لا تمنعنّكم رعاية الحقّ لأحدٍ عن إقامة الحقّ عليه" ، أي إنّ الإنسان إذا كان مؤمنًا ومجاهدًا فـي سبيل الله وبذل جهدًا كبيرًا وخاض المعارك وأنجز أعمالًا كبيرة فستكون مراعاة حقّه واجبة. وأمّا إذا تعدّى هذا الشّخص حدوده فـي حالةٍ خاصّة وضيّع حقًّا من الحقوق، فلا ينبغي التّغاضي عن خطئه هذا بحجّة أعماله الحسنة السّابقة، إذًا لا بدّ من التمييز بين الأمور. فإذا كان الإنسان صالحًا وذا قدرٍ كبيرٍ وسابقة محمودة وجهودٍ بذلها للإسلام والبلاد فهذا جيّد وحقوقه مقبولة ومحفوظة وينبغي أن تُقدّر، ولكن إذا تعدّى وتجاوز، فإنّ مراعاة ذلك الحقّ ينبغي أن لا تؤدّي إلى غضّ الطّرف عن المخالفة الّتي ارتكبها. هذا هو منطق أمير المؤمنين.
كان هناك شاعرٌ اسمه النّجاشيّ، هو من شعراء أمير المؤمنين عليه السلام ومدّاحيه، وصاحب أفضل القصائد فـي حرب صفّين في تحريض النّاس ضدّ معاوية، ومن محبّي أمير المؤمنين عليه السلام وأحد الدّاخلين فـي حزبه، وأفعاله مشهورة بالإخلاص والولاية والسّوابق، وكان قد شرب الخمر فـي نهار شهر رمضان. حين علم أمير المؤمنين عليه السلام بالأمر قال إنّ حدّ الخمر معروف، آتوني به لإقامة الحدّ عليه. أقام أمير المؤمنين عليه السلام عليه حدّ الخمر أمام أعين النّاس، ثمانين سوطًا. فجاءت عائلته وقبيلته إلى أمير المؤمنين عليه السلام وقالوا: يا أمير المؤمنين، أرقت ماء وجوهنا. لقد كان هذا من أصحابك وأصدقائك ـ وبتعبيرنا المعاصر ـ كان من تيّارك. فقال أنا لم أفعل شيئًا، إنّه مسلم ارتكب مخالفة، فوجب عليه حدّ من حدود الله، فأقمت ذلك الحدّ.
بالطبع، النّجاشيّ، وبعد أن جُلد من قِبَل عليّ عليه السلام، قال: طالما كان الأمر كذلك، فسأذهب إلى معاوية وأنظم أشعاري به. فقام وفارق أمير المؤمنين عليه السلام والتحق بمعسكر معاوية. فلم يقل أمير المؤمنين عليه السلام إنّ النجاشيّ قد تركنا وهذه خسارة مؤسفة، فلنحاول إبقاءه هنا، كلّا، إنْ ذهب، فليذهب! بالطبع، من الأفضل كان أن يبقى. هذا هو منطق أمير المؤمنين عليه السلام ومنهجه. قال الإمام عليه السلام لأصحاب النجاشي: "فهل هو إلاّ رجلٌ من المسلمين انتهك حرمة من حُرَم الله فأقمنا عليه حدّاً كان كفّارته" . أقمنا عليه الحدّ فسقط عنه ذنبه.
وكان هناك رجلٌ من قبيلة بنـي أسد ـ كان من أقارب أمير المؤمنين عليه السلام ــ وجب عليه حدٌّ من الحدود. فقال نفرٌ من محبّي أمير المؤمنين عليه السلام ومن رجال قبيلة ذلك الشخص: لنذهب إلى أمير المؤمنين عليه السلام ونُعالج المشكلة بنحوٍ من الأنحاء. فجاؤوا أوّلًا إلى الإمام الحسن المجتبى عليه السلام ليكون واسطتهم لدى أبيه، فقال الإمام الحسن: لا ضرورة لمجيئي، اذهبوا أنتم، فوالدي أمير المؤمنين يعرفكم. فجاؤوا إلى أمير المؤمنين عليه السلام وقالوا: هذه هي حالنا فساعدنا. فقال الإمام عليه السلام فـي معرض إجابتهم لا مانع لديّ فـي أيّ أمر أكون فيه حرًّا مختارًا، وسأفعله لكم، ففرح هؤلاء وخرجوا، وفـي الطّريق صادفوا الإمام الحسن عليه السلام فسألهم: ماذا فعلتم؟ قالوا له: انتهى الأمر على خيرٍ والحمد لله، وقد وعدنا أمير المؤمنين عليه السلام. فسألهم: ماذا قال لكم أمير المؤمنين؟ قالوا: قال لنا أفعل لكم ما أكون حرًّا فيه ويعود أمره إلـيّ. فتبسّم الإمام الحسن عليه السلام وقال: إذًا اذهبوا وافعلوا كلّ ما يجب أن تقوموا به فـي حال إقامة الحدّ عليه! وأقام أمير المؤمنين عليه السلام الحدّ عليه بعد ذلك. فجاؤوا وقالوا: يا أمير المؤمنين، لمَ أقمت الحدّ على هذا الرجل؟ فقال: ليس الحدّ ممّا أملك أمره وحرّية التصرّف فيه. الحدّ حكمٌ إلهيّ. قلتُ لكم ما أكون حرًّا فيه أفعله لكم . والحدّ ليس فـي يدي. هذا، وبنو أسد من أصدقاء أمير المؤمنين عليه السلام والمخلصين له. هكذا كانت حياة أمير المؤمنين عليه السلام.
هناك روايات كثيرة عن قضائه وثيابه ومعيشته وأولاده. يقول الرّاوي: ذهبت فشاهدت الإمام الحسن والإمام الحسين عليهما السلام جالسين يأكلان الطّعام، طعامهما كان خبزًا وخلًّا وبعض الخضار. فقلتُ لهما يا سيّداي أنتما أميران، أنتما العائلة الحاكمة، ابنا أمير المؤمنين وفي السّوق كلّ هذه المأكولات "وفي الرحبة ما فيها"، في الرحبة ــ بقرب الكوفة ــ يُباع كلّ شيء والنّاس تشتري، وأنتما ابنا الأمير عليه السلام، أهذا هو طعامكما؟ فالتفتا إليه وقالا: "ما أغفلك عن أمير المؤمنين" ، أنت غافل عن أمير المؤمنين، اذهب وانظر إلى حياته! كان الإمام هكذا حتّى مع عائلته.
لقد سمعتم بقصّة زينب الكبرى والاستعارة من أبـي رافع، وكذلك قصّة عقيل الّذي جاء إلى الإمام وطلب: "صاع من بُرّ"، أي أراد من القمح مقداراً أكثر من حصّته. فأخذ الإمام تلك الحديدة المحمّاة وقرّبها منه ــ بالطّبع لم يضعها عليه ــ وهدّده ولم يقبل طلبه. جاءه عبد الله بن جعفر ــ ابن أخيه وصهره، زوج السيّدة زينب ــ وقال: يا أمير المؤمنين ليس فـي يدي شيء، وأنا مضطرّ لبيع بعض أدوات منزلي. فساعدني ببعض شيء، فلم يوافق الإمام عليه السلام وقال: إلاّ إذا قلت لـي اذهب يا عمّ واسرق واعطني من مال النّاس.
لقد حدّد أمير المؤمنين عليه السلام معيار الحكم فـي مجتمع ٍمتطوّرٍ وكبيرٍ ومتحضّرٍ وثريّ، فـي زمانه على أساس ما كان فـي زمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. كلّ شيء كان قد تطوّر. أراد أمير المؤمنين عليه السلامبسلوكه إثبات أنّه بالإمكان إحياء تلك المبادئ حتّى في أحلك الظروف. هذا هو العمل العظيم الّذي قام به أمير المؤمنين عليه السلام. فمبدأ الإيمان، والعدالة، والجهاد، وصناعة النّاس، والإدارة الكفوءة اللائقة المؤمنة - فحياة أمير المؤمنين عليه السلام زاخرة بأحداث وأمور أنتم أيهّا النّاس وعلى مدى سنوات تسمعون وقد سمعتم من كلّ قسمٍ منها على شكل قصص وروايات وأحاديث له عليه السلام - كلّها دلائل على هذه الحقيقة، وخلاصتها أنّ أمير المؤمنين عليه السلام أراد أن يُبرهن للعالَم أنّ هذه المبادئ الإسلاميّة ممكنة التّطبيق في كلّ الظروف.
وهذا هو الواقع. ليست المبادئ الإسلاميّة في شكل ثياب أمير المؤمنين عليه السلام بحيث إذا كان يرتدي مئزرًا أو قميصًا علينا اليوم ارتداء نفس الملابس. المبادئ الإسلاميّة هي العدالة، والتوحيد، وإنصاف النّاس، واحترام حقوقهم، ومتابعة شؤون الضعفاء، والوقوف بوجه الجبهات المعادية للإسلام والدين، والإصرار على ركائز الحقّ والإسلام والدّفاع عن الحقّ والحقيقة. هذه مفاهيم ممكنة التطبيق فـي جميع العصور.
بالطبع، نحن عندما نذكر هذا الكلام اليوم، فإنّنا نأتي به من مكانٍ رفيع، فمن ذا الّذي بوسعه حتّى أن يتصوّر التشبّه بأمير المؤمنين عليه السلام؟ كلّا، لا أحد يمكنه التشبّه بأمير المؤمنين عليه السلام. الإمام السجّاد عليه السلام وهو حفيد أمير المؤمنين عليه السلام وله مقام العصمة، حين قيل له إنّك كثير العبادة قال أين عبادتنا من عبادة عليّ عليه السلام ؟ أي إنّ الإمام العابد السجّاد يقول ليس بالإمكان مقارنتي بعليّ عليه السلام. وبين الإمام السجّاد عليه السلام وخيرة العُبّاد والزهّاد في زماننا آلاف الفراسخ.
أشار أمير المؤمنين عليه السلام إلى النّموذج والقمّة واتّجاه الحركة وحدّد الملاك، فلنصل أينما استطعنا الوصول. النّظام الإسلاميّ نظام العدل والإنصاف وخدمة النّاس واحترام حقوق الإنسان ومجابهة الظّلم الّذي يُمارسه القويّ ضدّ الضعيف. هذه هي مشكلات البشريّة المهمّة على امتداد التاريخ. ابتُليت البشريّة بهذه المشكلات دائمًا وما تزال تُعاني من هذا البلاء. لاحظوا اليوم كيف يدّعي العتاة والأقوياء فـي العالم أنّ العالم كلّه لهم. تُعاني الشّعوب الصّفعات وضنك العيش بسبب هذا التعسّف. إنّ منطق الإسلام ومنطق أمير المؤمنين عليه السلام ومنطق الحكومة العلويّة مجابهة هذه الأشياء، سواء داخل المجتمع إذا أراد قويٌّ ابتلاع ضعيف، أم على المستوى العالميّ والدوليّ.
(05/11/2004)
المصدر: كتاب إنسان بعمر 250 سنة، للامام الخامنئي، الفصل الثالث: الإمام علي (ع)