إنسان بعمر 250 سنة | العناصر البارزة في حياة أمير المؤمنين ع 06

لقد التأمت في شخصيّة وحياة وشهادة الامام علي بن ابي طالب ع هذا الرّجل الفذّ ثلاثة عناصر تبدو غير منسجمة تمامًا مع بعضها البعض في الظاهر، وتلك العناصر الثلاثة عبارة عن: القوّة، والمظلومية، والانتصار.

 

فقوّته تكمن في إرادته الصّلبة وعزمه الراسخ، وفي تسيير دفّة الشّؤون العسكريّة في أعقد المواقف، وفي هداية العقول نحو أسمى المفاهيم الإسلاميّة والإنسانيّة، وتربية وإعداد شخصيّات كبرى من قبيل مالك الأشتر وعمّار وابن عباس ومحمّد بن أبي بكر وغيرهم، وشقّ مسار مميّز في تاريخ الإنسانيّة. ويتمثّل مظهر قوّته في اقتداره المنطقيّ واقتداره في ميادين الفكر والسياسة، وفي اقتدار حكومته وشدّة ساعده.

 

ليس ثمّة ضعف في شخصيّة أمير المؤمنين عليه السلام في أيّ جانب من جوانبها. ويُعتبر في الوقت ذاته من أبرز الشّخصيّات المظلومة في التّاريخ. وقد كانت مظلوميّته في كلّ جوانب حياته، لقد ظُلم في أيّام شبابه، حيث تعرّض للظّلم حينذاك من بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وظُلِم في سنوات كهولته وفي عهد خلافته واستُشهد مظلومًا، وظلّ من بعد استشهاده يُسبّ على المنابر على مدى سنوات طوال، وتُنسب إليه شتّى الأكاذيب.

 

لدينا في جميع الآثار الإسلاميّة شخصيّتان أُطلقت عليهما صفة "ثار الله". ولا توجد في اللغة الفارسية كلمة معادلة تمامًا لكلمة "الثأر" كما في اللغة العربية، فعندما يُقتل شخص ظلمًا فأسرته هي وليّ دمه، وهذا ما يُسمّى بالثأر، ولأسرته حقّ المطالبة بثأره. أمّا ما يُسمّى بـ "دم الله" فهو تعبيرٌ قاصر وناقص لكلمة الثأر ولا يوصل المعنى المطلوب. فالثّأر معناه حقّ المطالبة بالدّم. فإذا كان لأسرةٍ ما ثأر، فلها حقّ المطالبة به. وورد في التّاريخ الإسلاميّ اسما شخصيّتين، وليّ دمهما الله، فهو الّذي يطلب بثأرهما، أحدهما الإمام الحسين عليه السلام، والآخر هو أبوه أمير المؤمنين عليه السلام: "يا ثار الله وابن ثاره" ، أي أنّ المطالب بدم أبيه هو الله تعالى أيضًا.

 

أمّا العنصر الثالث الّذي طبع حياة الإمام عليّ عليه السلام فهو النّصر، حيث تغلّب في حياته على جميع التّجارب العصيبة الّتي فُرضت عليه، ولم تستطع جميع الجبهات، الّتي سنذكرها لاحقَا، والّتي فتحها ضدّه أعداؤه أن تنال منه وإنّما هُزِمت كلّها أمامه. ومن بعد استشهاده أخذت حقيقته الناصعة تتجلّى وتتفتّح يومًا بعد آخر أكثر ممّا كانت عليه في أيّام حياته. ففي عالم اليوم، ليس العالم الإسلاميّ وحده وإنّما العالم كلّه، هناك أناس كثيرون لا يؤمنون حتّى بالإسلام، إلا أنّهم يؤمنون بعليّ بن أبي طالب عليه السلام كشخصيّة تاريخيّة لامعة. وهذا هو جلاء ذلك الجوهر الوهّاج، وكأنّ الله يُكافئه على ما لحق به من ظلم.

 

فلا بدّ أنّ يكون لتلك المظلوميّة ولذلك الكبت والضّغط والتعتيم ولتلك الحقيقة السّاطعة مع تلك التّهم العجيبة، التي واجهها بالصّبر، ثواب عند الله. وثوابها هو أنّك لا تجد على مدى التاريخ شخصيّة، على هذه الدرجة من التألّق وقد نالت القبول بكلّ هذا الإجماع. ولعلّ أفضل الكتب الّتي سُطّرت حتّى اليوم بحقّ أمير المؤمنين عليه السلام، وأكثرها ولهًا وحبًّا، هي تلك الّتي كتبها أشخاص غير مسلمين. وفي ذهني أسماء ثلاثة كتّاب مسيحيّين كتبوا بوَلهٍ حول أمير المؤمنين عليه السلام كتبًا جديرة بالثناء حقًّا. وكان هذا الحبّ قد نشأ منذ اليوم الأوّل، أي من بعد استشهاده، حيث تكالب الجميع على الإساءة إليه والانتقاص منه ـ من الطّغمة الّتي كانت تحكم الشام ومن كان يدور في فلكها، وممّن امتلأ غيظًا من سيف أمير المؤمنين ومن عدله ـ فكانت هذه القضيّة واضحة منذ ذلك الوقت.

 

وأنا أذكر ها هنا مثالًا واحدًا على ذلك: انتقص ابن عبد الله بن عروة بن الزبير من أمير المؤمنين عليه السلّام ذات يوم، أمام أبيه عبد الله بن عروة بن الزبير. وكان آل الزبير كلّهم ضدّ عليّ، إلا واحدًا منهم وهو مصعب بن الزبير الّذي كان رجلًا شجاعًا وكريمًا، وهو الّذي دخل لاحقًا في صراعٍ مع المختار الثقفيّ في الكوفة، ومن بعده مع عبد الملك بن مروان، وهو زوج سكينة، أي إنّه أوّل صهر للإمام الحسين عليه السلام، فكان آل الزبير كلّهم خصومًا لأمير المؤمنين عليه السلام أبًا عن جدّ، باستثنائه هو. وهذا ما يدركه الإنسان من خلال دراسته للتاريخ.

 

وبعدما سمع عبد الله ذلك الانتقاص على لسان ابنه قال جملة ليست حيادية كثيرًا، إلا أنهّا تنطوي على نقطة مهمّة وهي: "والله يا بُنيّ، ما بنى النّاس شيئًا قطّ إلّا هدمه الدّين، ولا بنى الدّين شيئًا فاستطاعت الدنيا هدمه". أي إنّهم يحاولون عبثًا هدم اسم أمير المؤمنين عليه السلام القائم اسمه على أساس الدّين والإيمان، "ألم ترَ إلى عليّ كيف تُظهر بنو مروان من عيبه وذمّه؟ والله لكأنّهم يأخذون بناصيته رفعًا إلى السّماء. وأما ترى ما يندبون به موتاهم من التّأبين والمديح؟ والله لكأنّما يكشفون به عن الجيف" . لعلّ هذه الكلمة قيلت بعد نحو ثلاثين سنة من شهادة أمير المؤمنين عليه السلام، أي إنّه عليه السلام وعلى الرغم من فداحة الظّلم الّذي نزل به، أضحى هو المنتصر في حياته وفي التاريخ وفي ذاكرة الإنسانيّة.

 

ويمكن تلخيص قضية قوّة أمير المؤمنين إلى جانب مظلوميّته الّتي انتهت إلى هذا الحال في ما يلي:

 

القاسطون


لقد اصطفّت ضدّ عليّ عليه السلام في أيّام حكومته الّتي استمرّت أقلّ من خمس سنوات، ثلاثة تيارات هي: القاسطون، والناكثون، والمارقون، إذ ينقل عنه عليه السلام السنّة والشّيعة أنّه قال: "أُمرت أن أُقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين" . وهذه التسمية هو الّذي أطلقها على تلك الفئات الثلاث، فالقاسطون بمعنى الظّالمين، لأنّه عندما يأتي الفعل قسط مجرّدًا: قَسَطَ يقسِط، بمعنى جار يجور، وظلم يظلم. وحينما يأتي على صيغة الثّلاثيّ المزيد على وزن أفعل: أقسط يُقسط، فمعناه العدل والإنصاف. وعلى هذا، إذا استعمُلت كلمة القسط على وزن إفعال، تعني العدل، وإذا جاءت على صيغة قَسَطَ يقسِط فهي على عكس ذلك، أي بمعنى الظّلم والجور. فهو عليه السلام سمّاهم الظّالمين.

 

ولكن من هم أولئك القاسطون؟ القاسطون فئة دخلت الإسلام ظاهريًّا لمصالحها الخاصّة ولم تكن تعترف بالحكومة العلويّة أساسًا. ولم تُجدِ كلّ الأساليب، الّتي انتهجها معها أمير المؤمنين عليه السلام، نفعًا. والتفّت تلك الفئة حول محور بني أميّة الّذي كان معاوية بن أبي سفيان ــ والي الشام آنذاك ــ أبرز شخصيّة فيه، ثمّ يأتي من بعده مروان بن الحكم والوليد بن عقبة. شكّل هذا المحور جبهة رفضت التّفاهم والاتّفاق مع أمير المؤمنين عليه السلام. ومع أنّ المغيرة بن شعبة وعبد الله بن عبّاس وغيرهما أشاروا على أمير المؤمنين عليه السلام منذ أوّل حكومته بالإبقاء عليهم في مناصبهم لبعض الوقت، غير أنّه أبى عليهم ذلك، فذهبت بهم الأوهام إلى أنّه لم يُحسن اتّخاذ الموقف السياسيّ المناسب. ولكنّهم هم الّذين كانوا في غفلةٍ كما برهنت عليه الأحداث اللاحقة، فمعاوية لم يكن يأتلف مع أمير المؤمين عليه السلام رغم كلّ ما كان يفعله عليه السلام، ولم يكن يقبل به رغم كلّ الأساليب الّتي اتّبعها عليه السلام لأجل هذه الغاية. ولم يكن ذلك النّهج ممّا ترتضيه حكومة كالحكومة العلويّة، على الرغم من تحمّل السّابقين لبعض هؤلاء.

 

كان هناك أقلّ من ثلاثين سنة ما بين إسلام معاوية وهبوبه لمحاربة أمير المؤمنين عليه السلام. فكان هو وأذنابه قد حكموا الشّام لسنواتٍ طوال وبسطوا نفوذهم فيها وأسّسوا لهم قاعدة واسعة هناك. ولم تكن الأحوال آنذاك كما كانت عليه في الأيّام الأولى الّتي كان بالإمكان أن يُقال لهم فيها ـ إذا ما أظهروا الخلاف ـ إنّكم دخلتم الإسلام توًّا، ولا يحقّ لكم الخلاف.

 

فهم كانوا قد ثبّتوا لهم قدمًا عند ذاك. إذًا كان هذا التيّار يرفض الحكومة العلويّة جملةً وتفصيلًا، ويرنو إلى نمطٍ آخر من الحكم يكون زمامه بيده، وهو ما ثبت عنهم فيما بعد وذاق العالم الإسلاميّ مرارة حكمهم. فهذا معاوية نفسه، الّذي كان في عهد صراعه مع أمير المؤمنين عليه السلام يُظهر الودّ والمحبّة لبعض الصّحابة، قد أبدت حكومته فيما بعد أسلوبًا في غاية العنف والشدّة حتّى انتهى بها الحال إلى عهد يزيد وواقعة كربلاء، ومن بعده إلى زمن مروان وعبد الملك والحجّاج بن يوسف الثقفيّ ويوسف بن عمر الثقفيّ الّذين يُعدّون من جملة نتائج تلك الحكومة وثمارها.

 

ومعنى هذا أنّ الحكومات الّتي يهتزّ التّاريخ لذكر جرائمها ـ كحكومة الحجّاج على سبيل المثال ـ كان معاوية هو الّذي أرسى أسسها وحاربه أمير المؤمنين عليه السلام من أجلها. فقد كانت غايتهم معروفة منذ البداية، إذ إنّهم كانوا يبتغون حكومة دنيويّة محضة تدور في فلك ذواتهم ومصالحهم الذاتية، وهي المظاهر الّتي شاهدها الجميع في حكومة بني أميّة.

 

ولا نودّ الدخول هنا في أيّ بحث عقائديّ أو كلاميّ. والأمور الّتي نعرضها هي من صلب التاريخ، وليس تاريخ الشّيعة طبعًا، وإنّما تاريخ ابن الأثير وابن قتيبة وما شابه ذلك. وهي نصوص مدوّنة ومحفوظة، وتدخل في عداد الحقائق المسلّم بها وليس في إطار الاختلافات الفكريّة بين الشّيعة والسنّة.
 

النّاكثون


الجبهة الثّانية الّتي حاربت أمير المؤمنين عليه السلام هي جبهة الناكثين. والناكث هو الناقض، والمراد به هنا ناقض البيعة. وهذه الفئة بايعت أمير المؤمنين عليه السلام في البداية إلا أنّها نقضت البيعة فيما بعد ونكثتها. وكان أفراد هذه الفئة ـ على العكس من الفئة الأولى ـ مسلمين ملتزمين، وفي الخندق الموالي. إلا أنّ ولاءهم واعترافهم بحكومة عليّ بن أبي طالب عليه السلام كان منوطًا بإعطائهم حصّة مقبولة فيها والتّشاور معهم ومنحهم المناصب والمسؤوليّات الحكوميّة مع عدم التعرّض لما في أيديهم من ثروات وعدم السّؤال عن مصادرها.

 

ويُمكن ملاحظة مدى ضخامة الثروات الّتي خلّفها أمثال هؤلاء بعد موتهم. إذًا، كانت هذه الفئة ترتضي حكم أمير المؤمنين عليه السلام ولكن بشرط عدم المساس بمثل هذه الأمور، وأن لا يُقال لأحدهم من أين لك هذه الثّروة؟ وكيف حصلت عليها؟ وما إلى ذلك. ولهذا السّبب بايع أكثرهم منذ البداية، في حين أنّ بعضًا آخر لم يُبايع، فسعد بن أبي وقّاص لم يُبايع منذ البداية، إلّا أنّ طلحة والزبير وأكابر الصّحابة وغيرهم بايعوا أمير المؤمنين عليه السلام وأسلموا له القيادة، بيد أنّهم أدركوا بعد مضيّ ثلاثة أو أربعة أشهر عدم إمكانيّة الانسجام مع هذه الحكومة الّتي لا تُفرّق في تعاملها بين القريب والبعيد، ولا ترى لذاتها ولا لأفراد أُسرها أيّ امتياز، ولا تقرّ بأيّ امتياز للسّابقين في الإسلام - وإن كان أمير المؤمنين عليه السلام نفسه أوّلهم إسلامًا ـ ولا تُحابي أحدًا في تطبيق الأحكام الإلهيّة.

 

ولهذه الأسباب جنّدوا أنفسهم لمعارضة هذه الحكومة وتسبّبوا في وقوع معركة الجمل الّتي كانت فتنة حقًّا، وقُتل في هذه المعركة عددٌ كبيرٌ من المسلمين، وانتهت المعركة بانتصار أمير المؤمنين عليه السلام وإعادة الأمور إلى نصابها. وهذه هي الجبهة الثانية الّتي شغلت أمير المؤمنين عليه السلام ردحًا من الزمن.

 

المارقون


أما الجبهة الثالثة فكانت جبهة المارقين، والمارق بمعنى الخارج والهارب. وقيل إنّهم سمّوا بالمارقين لخروجهم من الدين كخروج السّهم من القوس. وكانت هذه الفئة متمسّكة بظواهر الدين، ويُكثرون من التبجّح باسم الدين. وهؤلاء هم الخوارج الّذين وضعوا أسسهم الفكريّة على أساس فهم مغلوط للدين ــ وهي ظاهرة خطيرة طبعًا ــ ولم يأخذوا الدّين عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام الّذي كان مفسّرًا للقرآن وعالمًا بالكتاب. أمّا تكتّلهم أو ما يُسمّى بالاصطلاح المعاصر "تحزّبهم" فكان يستلزم سياسة معيّنة، وكانت هذه السّياسة توجّه من مكانٍ آخر.

 

والسّمة البارزة الّتي كانت تُميّز أعضاء هذه الفئة هي أنّك لا تكاد تتلفّظ بكلمة حتّى يُسارع أحدهم إلى الإتيان بآية من القرآن، وكانوا كثيرًا ما يقرؤون أثناء صلاةِ جماعةِ أمير المؤمنين عليه السلام آيات معرّضين به، أو يقومون عند منبره ويقرؤون آية فيها تعريض يقصدونه بها، وكان شعارهم "لا حكم إلّا لله"، بمعنى أنّنا لا نعترف بحكومتك، ونحن أتباع حكومة الله! هذه الفئة، الّتي كان ظاهر أمرها على هذه الشّاكلة، كان تنظيمها واتّجاهها السياسيّ يجري وفقًا لآراء وتوجيهات كبار القاسطين والشّخصيّات البارزة في حكومة الشّام ـ أي عمرو بن العاص ومعاوية ـ إذ كانت لهذه الفئة علاقات بأولئك الأشخاص، فالأشعث بن قيس، كما يشير الكثير من القرائن. كان رجلًا غير نزيه. واتّبعت هذه الفئة طائفة كبيرة من البسطاء فكريًّا.

 

إذًا، الفئة الثالثة الّتي جابهت أمير المؤمنين عليه السلام ـ وانتصر عليها طبعًا ـ هي فئة المارقين الّتي وجّه لها ضربة قاصمة في معركة النّهروان. ولكن كان لهم وجود في المجتمع، وفي ختام المطاف كان استشهاده على أيديهم.

 

ينبغي أن لا يُشتبه في فهم الخوارج، فهنالك من يصف الخوارج بالتحجّر والتنسّك الجامد، ولكن المتنسّك يتّصف بالعزلة والانطواء على صلاته ودعائه، وهذا المعنى لا يصدق على الخوارج، لأنّ الخوارج عناصر متمرّدة تُثير الأزمات، ولها وجود فاعل في السّاحة، وتشنّ حربًا ضدّ عليّ عليه السلام، ولكن أساس عملها خاطئ، وحربها خاطئة، وأساليبها مرفوضة، وغايتها باطلة. هذه هي الفئات الثّلاث الّتي جابهت أمير المؤمنين.

 


المصدر: كتاب إنسان بعمر 250 سنة، للامام الخامنئي، الفصل الثالث: الإمام علي (ع)

2025-04-22 | 6 قراءة