إنسان بعمر 250 سنة | المكانة المعنوية للسيدة الزهراء (ع) 01

الصابرة الممتحنة


لا تنحصر فيوضات السيّدة فاطمة الزّهراء عليها السلام لمجموعة صغيرةٍ تُعدّ جماعةً محدودة من مجموع العائلة البشريّة. فلو أنّنا نظرنا بنظرةٍ واقعيّة ومنطقيّة، فإنّ البشريّة مرهونة لفاطمة الزّهراء عليها السلام، وهذا ليس جزافًا، إنّها حقيقة، مثلما أنّ البشريّة مرهونة للإسلام والقرآن ولتعاليم الأنبياء عليهم السلام والنبيّ الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم. لقد كان الأمر كذلك دومًا وعلى مرّ التّاريخ وهو اليوم كذلك، فإنّ نور الإسلام ومعنويّات فاطمة الزّهراء عليها السلام يومًا بعد يوم سيصبحان أكثر نصوعًا، وسوف تتلمّس البشريّة ذلك. ما لدينا من تكليف ووظيفة في هذا المجال، هو أن نجعل أنفسنا لائقين للانتساب إلى هذه العترة. وبالطّبع، فإنّ الانتساب لعترة الرسالة وأن نكون من جملة التّابعين لهم والمعروفين بولايتهم أمرٌ صعبٌ، حيث نقرأ في الزيارة إنّنا أصبحنا معروفين بمحبّتكم وولايتكم، وهذا ما يُلقي على كاهلنا تكليفًا مضاعفًا.


 
إنّ هذا الخير الكثير الّذي أعطاه الله تعالى في سورة الكوثر المباركة كبشارةٍ للنّبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ ، تأويله هو فاطمة الزّهراء عليها السلام، في الحقيقة هو مجمع جميع الخيرات الّذي سوف ينزل يومًا بعد يوم من منبع الدّين النبويّ على كلّ البشريّة والخلائق. لقد سعى الكثيرون من أجل إخفائه وإنكاره ولكنّهم لم يتمكّنوا ﴿وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ .

 

يجب علينا أن نُقرّب أنفسنا إلى مركز النّور هذا، وإنّ لازم وخاصّيّة هذا التقرّب هو التنوّر. يجب علينا أن نُصبح نورانيّين من خلال العمل، لا بواسطة المحبّة الفارغة، العمل الّذي تُمليه علينا هذه المحبّة وتلك الولاية وذاك الإيمان ويطلبه منّا، بهذا العمل يجب أن نُصبح من هذه العترة والمتعلّقين بها. ليس من السهل أبدًا أن يصير المرء قنبرًا في بيت عليّ عليه السلام، ليس من السهل أن يصبح الإنسان "سلمان منّا أهل البيت" . نحن مجتمع الموالين وشيعة أهل البيت عليهم السلام نتوقّع من هؤلاء العظماء أن يعتبرونا منهم ومن حاشيتهم. "فلانٌ من ساكني تربة عتباتنا"، قلوبنا تريد أن يحكم علينا أهل البيت بهذه الطّريقة وهذا الأمر ليس سهلًا ولا يحصل بمجرّد الادّعاء. إنّ هذا يستلزم العمل والإيثار والتشبّه والتخلّق بأخلاقهم.

 

انظروا إلى هذه السّيّدة الجليلة في أيّ سنٍّ حازت على كلّ هذه الفضائل! وفي أيّ عمرٍ برزت فيها كلّ هذه التألّقات! في عمرٍ قصير لم يتجاوز 18 سنة، 20 سنة، 25 سنة بحسب اختلاف الرّوايات. وكلّ هذه الفضائل لا تحصل عبثًا، "امتحنك الله الّذي خلقك قبل أن يخلقك، فوجدك لما امتحنك صابرة" ، فإنّ الله تعالى قد امتحن زهراء الطّهر، وهي المصطفاة من عباده. إنّ النّظام الإلهيّ هو نظامٌ يعتمد على الحساب والكتاب، وما يمنحنا إيّاه إنّما يكون محسوبًا بدقّة. إنّه يعدّ كلّ هذا الإيثار والمعرفة والتّضحية الخاصّة (وهي من عبيده الخواص)، في سبيل الأهداف الإلهيّة، لذلك جعلها مركز فيوضاته.

(05/10/1370)


نور فاطمة


في روايةٍ، إنّ سطوع نور فاطمة الزّهراء عليها السلام أدّى إلى أن تنبهر عيون الكروبيّين من الملأ الأعلى، "زهر نورها لملائكة السّماء" . فماذا نستفيد نحن من هذا النّور والسّطوع؟ يجب علينا الاهتداء بهذا النّجم السّاطع إلى الله وإلى طريق العبوديّة الّذي هو الصّراط المستقيم، الّذي سلكته فاطمة الزّهراء عليها السلام، فوصلت إلى تلك المدارج والمقامات العالية. فإن جعل الله طينتها طينةً متعالية، فلأنّه كان يعلم أنّها تخرج مرفوعة الرّأس من الامتحان في عالم المادّة والنّاسوت "امتحنك الله الذي خلقك قبل أن يخلقك فوجدك لما امتحنك صابرة" ، هذه هي القضيّة. فالله تعالى إذ تلطّف بلطفه الخاصّ على تلك الطّينة، فجانبٌ من القضيّة هو أنّه يعلم بأنّها تخرج مرفوعة الرأس من الامتحان، وإلا فإنّ الكثيرين كان لديهم طينة طيّبة، لكن هل تمكّن الجميع من الصّبر على الامتحان؟ هذا جانبٌ من حياة الزّهراء عليها السلام الّتي نحتاج إليها لنجاة أنفسنا، فالحديث ورد من طريق الشّيعة أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال لفاطمة عليها السلام: "يا فاطمة اعملي فإنّي لا أغني عنك من الله شيئًا" ، أي يجب عليك أن تُفكّري وتهتمّي بنفسك، فكانت تهتمّ بنفسها منذ صغرها وإلى نهاية عمرها القصير.

 

كيف كانت حياتها؟ كانت إلى ما قبل الزّواج، عندما كانت ما زالت فتاة كانت تعامل أباها، الذي كان بهذه العظمة، بحيث راحت تُكنّى بـ "أمّ أبيها" ، في الوقت الذي كان نبيّ الرّحمة والنّور ومؤسّس الحضارة الحديثة والقائد العظيم للثّورة الخالدة يرفع راية الإسلام. ولم تُكنَّ بـ "أمَ أبيها" اعتباطًا، فقد كانت الزّهراء إلى جانب أبيها، تزيل بيديها الصّغيرتين غبار الحزن والغمّ عن وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، سواء في مكّة أم في شُعب أبي طالب مع كلّ شدائدهما، أم عندما بقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحيدًا مكسور القلب بوقوع حادثتين في فترة قصيرة، هما وفاة خديجةعليها السلام ووفاة أبي طالب عليه السلام حيث أحسّ النبيّ بالغربة. هذا هو منشأ كنيتها بـ "أمّ أبيها" .

 
لقد كانت السيّدة الزّهراء عليها السلام في سنّ السادسة أو السّابعة ـ حيث يوجد روايات مختلفة بشأن تاريخ ولادتها ـ عندما حدثت مسألة شُعب أبي طالب. لقد شكّلت شعب أبي طالب مرحلة صعبة جدًّا في تاريخ صدر الإسلام، أي إنّ دعوة النبيّ كانت قد بدأت وصارت علانيّةً، وبالتدريج بدأ أهل مكّة ـ وخصوصًا الشباب، وبالأخص العبيد ـ يقبلون ويؤمنون به، ورأى صناديد قريش كأبي لهب وأبي جهل وغيرهما أنّه لا بدّ من إخراج النبيّ وكلّ من كان معه من مكّة، وهذا ما فعلوه. فأخرجوا عددًا كبيرًا منهم وقد بلغوا عشرات الأُسر بما في ذلك النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأسرته وأبو طالب نفسه، مع أنّ أبا طالب كان يُعدّ من الوجهاء الكبار. فخرجوا من مكّة ولكن إلى أين يذهبون؟ صادف أن كان لأبي طالب مُلكٌ في بقعة قريبة من مكّة ــ لعلّها كانت تبعد عدّة كيلومترات ـ وكانت في شعاب جبلٍ يُدعى شُعب أبي طالب. فقال لهم أبو طالب فلنذهب إلى هذه الشّعب. فكِّروا في هذا الأمر! كانت النّهارات في مكّة شديدة الحرارة، والليالي في غاية البرودة، أي إنّ الوضع لم يكن قابلًا للتحمّل. لقد عاشوا في هذه الشّعب مدّة ثلاث سنوات. فكم تحمّلوا من جوعٍ وصعابٍ ومحنٍ، الله وحده يعلم. فأحد المراحل الصّعبة في حياة النبيّ كانت هناك. ولم تكن مسؤولية النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في هذه المرحلة منحصرة في القيادة بمعنى إدارة مجموعة، بل كان عليه أن يتمكّن من الدفاع عن عمله أمام هؤلاء الّذين كانوا واقعين في المحنة.

 

ومن المعلوم أنّه عندما تكون الأوضاع جيّدة، فإنّ الذين يكونون مجتمعين حول القيادة، يكونون جميعهم راضين عن الأوضاع ويقولون: رحم الله أباه، فقد أوصلنا إلى هذا الوضع الجيّد. ولكن عندما تسوء الأحوال، فإنّ الجميع يُصابون بالحيرة والتردّد، ويقولون: إنّه هو الّذي أوصلنا إلى هذا الوضع السيّئ! ولم نكن نريد أن نصل إلى مثل هذا الوضع! وبالطبع، فإنّ أصحاب الإيمان القويّ يصمدون، ولكن في النّهاية إنّ كلّ الصّعاب كانت تنهال على الرّسول. وفي هذه الأثناء، وعندما كان النبيّ يُقاسي أشدّ أنواع المحنة، توفّي كلٌّ من أبي طالب الّذي كان الدّاعم للنبيّ وأمله، والسيّدة خديجة الكبرى الّتي كانت تُعدّ أكبر عونٍ روحيّ له، في ظرف أسبوعٍ واحد! فكانت حادثة عجيبة جدًّا، أي أنّ النبيّ أصبح بعدها وحيدًا فريدًا.

 

إنّ مَن يترأس مجموعة معيّنة، يعلم ما معنى مسؤوليّة المجموعة. ففي مثل هذه الظّروف يصبح الإنسان متحيّرًا. انظروا إلى دور فاطمة الزّهراء عليها السلام في مثل هذه الظّروف. عندما يتأمّل الإنسان في التّاريخ، ينبغي أن يجد مثل هذه الموارد في الزّوايا المختلفة، وللأسف لم يتم فتح أيّ فصل لأيّ من هذه الأمور.

 

لقد كانت فاطمة الزّهراء عليها السلام كأمًّ ومشاورٍ وممرّضة بالنسبة للنبيّ. هناك قيل "فاطمة أمّ أبيها". إنّ هذا الأمر مربوط بذاك الوقت، أي عندما كان للابنة من العمر ستّ أو سبع سنوات. وبالطبع، في البيئة العربية وفي البيئات الحارّة، تنمو البنات بصورةٍ أسرع من الناحيتين الجسديّة والرّوحيّة، أي بمعدّل فتاة بعمر العاشرة أو الثانية عشرة في أيامنا هذه. وهذا ما يؤدّي إلى الشعور بالمسؤوليّة. ألا يمكن أن يُشكّل ذلك قدوةً لأيّ فتاة، كي تشعر باكرًا بالمسؤوليّة والنشاط تجاه القضايا التي تدور من حولها؟ إنّ هذا الرأسمال العظيم للنشاط الموجود فيها، كانت تنفقه من أجل أن تزيل غبار التكدّر والغمّ عن وجه أبٍ لعلّه قد مرّ على عمره أكثر من 50 سنة وقد قارب سنّ الهرم. ألا يُمكن أن يكون هذا بالنسبة للفتاة نموذجًا وقدوةً؟ هذا مهمٌّ جداً.

(27/04/1998)

 

في ذاك الوقت، وفي مثل هذا العالم، ربّى النبيّ الأكرم بنتًا صارت لائقةً لأن يأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويُقبّل يدها! إنّ تقبيل يد فاطمة الزّهراء عليها السلام، من قبل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لا ينبغي أن يؤخذ أبدًا على معنىً عاطفيّ. فإنّ هذا أمرٌ خاطئٌ جدًّا وحقيرٌ جدًّا فيما لو تصوّرنا بأنّه يُقبّل يدها فقط لأنّها ابنته ولأنّه يُحبّها. فهل يُمكن لشخصيةٍ بمثل هذه العظمة، وبمثل تلك العدالة والحكمة، الّتي كانت في النبيّ، يعتمد على الوحي والإلهام الإلهيّ أن ينحني ليُقبّل يد ابنته؟ كلّا، إنّ هذا أمرٌ آخر وله معنىً آخر. إنّه يحكي عن أنّ هذه الفتاة وهذه المرأة عندما ترحل من هذه الدنيا في عمر 18 أو 25 ــ قيل 18 وقيل 25 ــ تكون في أوج الملكوت الإنسانيّ وشخصًا استثنائيًّا. هذه هي نظرة الإسلام إلى المرأة.

(25/12/1991)

 

أمّا المقام المعنويّ لهذه السيّدة العظيمة، بالنسبة لمقامها الجهاديّ والثوريّ والاجتماعيّ، فهو أعلى بدرجات. ففاطمة الزّهراء عليها السلام هي في الظاهر بصورة بشر، وامرأة، وامرأة شابّة أيضًا، ولكنّها في المعنى هي حقيقةٌ عظيمة ونورٌ إلهيٌّ ساطع وعبدٌ صالح وإنسانٌ مميّز ومصطفى.

 

هي شخصٌ قال فيه الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لأمير المؤمنين عليه السلام: "يا عليّ أنت إمام أمّتي وخليفتي عليها بعدي، وأنت قائد المؤمنين إلى الجنّة، وكأنّي أنظر إلى ابنتي فاطمة قد أقبلت يوم القيامة على نجيبٍ من نور عن يمينها سبعون ألف ملك، وعن يسارها سبعون ألف ملك، وبين يديها سبعون ألف ملك، وخلفها سبعون ألف ملك تقود مؤمنات أمّتي إلى الجنّة" ، أي أنّه يوم القيامة يقود أمير المؤمنين عليه السلام الرجال المؤمنين، وتقود فاطمة الزّهراء عليها السلام النساء المؤمنات إلى الجنّة الإلهيّة. فهي عِدْل أمير المؤمنين عليه السلام. هي الّتي إذا وقفت في محراب العبادة فإنّ آلاف الملائكة المقرّبين لله يُخاطبونها ويُسلّمون عليها ويُهنّئونها ويقولون لها ما كانوا يقولون في السّابق لمريم الطّاهرة عليها السلام: "يا فاطمة إنّ الله اصطفاك وطهّرك واصطفاك على نساء العالمين" ، هذا هو المقام المعنويّ لفاطمة الزّهراء عليها السلام.

 

امرأةٌ، في سنّ الشباب، وصلت بلحاظ المقام المعنويّ، ووفق ما نُقل في الروايات، إلى حيث تُحدّثها الملائكة وتظهر لها الحقائق. "المحدَّثة" أي من تُحدّثها الملائكة وتتكلّم معها. وهذا المقام المعنويّ والميدان الوسيع والقمّة الرّفيعة هي في مقابل جميع نساء عالم الخلقة. إنّ فاطمة الزّهراء عليها السلام في قمّة هذا العلوّ العظيم تقف وتُخاطب كلّ نساء العالم، وتدعوهنّ لطيّ هذا الطّريق. هؤلاء الّذين كانوا عبر التاريخ ـ سواء في الجاهليّة القديمة أم في جاهليّة القرن العشرين ـ قد سعوا لتحقير المرأة وجعلها متعلّقة بهذه الزّخارف والزّينة الظّاهريّة ولا همّ لها سوى الموضة واللباس والزّينة والذّهب والزّخارف، ولا همّ لها سوى أن تقضي هذه الحياة في لهوٍ وعبث، وقد تحرّكوا من أجل ذلك، إنّ منطقهم هو منطق يشبه الثلج والجليد مقابل حرّ شمس المقام المعنويّ لفاطمة الزّهراء عليها السلام، سيذوب وينعدم.

 

يُعرّف الإسلام فاطمة ـ هذا العنصر المميّز والملكوتيّ الممتاز ـ بعنوان الأنموذج والأسوة للنساء. وهو تلك الحياة الظّاهريّة والجهاد والعلم والبيان والتّضحية وحسن التبعّل والأمومة والزّوجية والهجرة والحضور في جميع الميادين السّياسيّة والعسكريّة والثورية، والتفوّق في جميع الجوانب بحيث يخضع لها كلّ الرّجال العظماء، بل هذا أيضًا المقام المعنويّ والركوع والسجود ومحراب العبادة والدعاء والصحيفة والتضرّع والذّات الملكوتية وتألّق العنصر المعنويّ وكذلك عِدْل ووزان أمير المؤمنين عليه السلام والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. هذه هي المرأة، وهذا هو نموذج المرأة الذي يريد أن يصنعه الإسلام.

(26/10/1368)
 


المصدر: كتاب إنسان بعمر 250 سنة، للامام الخامنئي، الفصل الرابع: السيّدة فاطمة الزّهراء (ع)

2025-04-21 | 11 قراءة