
إنّ أهم ما كانت الأمّة بحاجة إليه خلال المرحلة الثانية من النهضة - فترة خلافة السفيانيّين والمروانيّين والعبّاسيّين - معرفتها وتشخيصها لمواطن الأصالة في الإسلام ومكامن الانبعاث الّتي ينطوي عليها الإسلام الأصيل والقرآنيّ، من بين طيّات التفسيرات المختلفة والمشتّتة، وأن لا يخلطوا بينها. فهذا التّاكيد في الأديان على التعقّل والتدبّر ليس عبثًا.
وما ورد في القرآن الكريم من حثّ النّاس على التفكّر والتعقّل والتدبّر فيما يتعلّق بأهمّ الموضوعات الدّينيّة وهو التوحيد، ليس لغوًا. فالتوحيد لا ينحصر في قولنا إنّ الله موجودٌ، وهو واحدٌ لا اثنين، بل هذه صورة من التوحيد. فحقيقة التوحيد هي أنّه محيطٌ بلا شاطئ يغرق فيه أولياء الله، وهو وادٍ عظيم الشّأن، لقد طُلب من المؤمنين والمسلمين الموحّدين السّير في هذا الوادي ذي العظمة بتفكّرٍ وتدبّرٍ وتعقّل.
وفي الحقيقة، إنّ العقل والتفكّر هما اللذان يستطيعان التقدّم بالإنسان إلى الأمام. وبطبيعة الحال، فإنّ هذا العقل إنّما يتغذّى ويستمدّ من نور الوحي والمعرفة ويستلهم من تعاليم أولياء الله على مراحل متعدّدة، لكن في النّهاية، إنّ الّذي يتحرّك إلى الأمام هو العقل، ومن دونه لا مجال للحركة أبدًا.
إنّ الشّيء الذي كان يحتاج إليه الشّعب الإسلاميّ، على مرّ القرون الّتي تمّ التسلّط فيها عليه باسم الخلافة ــ أي حتّى القرن السّابع، فترة الخلافة العبّاسيّة، وبالطبع، بعد انهيار الخلافة العبّاسيّة، كانت تأتي حكومات من هنا وهناك تحكم باسم الخلافة، كزمن المماليك في مصر، وما تلاها كذلك في البلدان العثمانيّة وأماكن أخرى ــ إنّ ما كان يحتاج إليه هو تحكيم العقل ليعلم ما إذا كانت رؤية الإسلام والقرآن والكتاب الإلهيّ والأحاديث المسلّمة بشأن أولياء الأمور تنطبق مع الواقع المعاش أم لا، إنّ هذا أمر في غاية الأهمية.
لقد تميّزت فترة الخلافة المروانيّة والسّفيانيّة والعبّاسيّة بإفراغ القيم الإسلاميّة من محتواها الحقيقيّ، إذ بقيت منها صورها لكنّ المضامين تبدّلت إلى مضامين جاهليّة وشيطانيّة.
لقد تحوّل ذلك الجهاز الّذي كان يريد تربية وصناعة أناسٍ عقلاء متعبّدين مؤمنين أحرار بعيدين عن التلوّث، خاضعين لله متكبّرين على المتكبّرين - والذي كان أفضله الجهاز الإداريّ الإسلاميّ الذي كان في عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم - إلى جهاز يُربّي النّاس ويُعلّمهم أصناف المكر ويجعلهم من أهل الدّنيا والأهواء والشّهوات والتملّق وبعيدين من المعنويّات، أناسًا فارغين، ديدنهم الفسق والفساد.
وللأسف، كان الوضع على هذه الشّاكلة على امتداد فترة الخلافة الأمويّة والعبّاسيّة. لقد سطّروا في كتب التّاريخ أمورًا، لو شئنا التطرّق إليها لطال بنا المقام. لقد بدأ الأمر في عهد معاوية، حيث امتدح المؤرّخون معاوية كثيرًا بوصفه بالحلم وسعة الصدر وسماحه لمعارضيه بالتفوّه بما شاؤوا أمامه. ولعلّه كان كذلك لبرهةٍ من الزّمن وفي أوائل حكمه. ولكن هنالك أبعاد أخرى إلى جانب هذا البعد من شخصيّته، نادرًا ما تطرّقوا إليه. فهناك الكثيرون ممّن لم يشيروا إلى طريقة استمالته للأفراد والأقطاب والأشراف من الرّجال لكي يتنصّلوا ممّا يعتقدون ويؤمنون به، بل وتجنيدهم لمواجهة الحقّ. والكثيرون لم يكتبوا مثل هذه الأمور. وهذا - بطبيعة الحال - مدوّن في التّاريخ، وهناك أناسٌ كتبوا ما نعرفه نحن الآن.
إنّ النّاس الّذين كانوا يخضعون لتربية تلك الأجهزة، كانوا يدرجون على عدم التفوّه بما يُخالف هوى الخليفة ورغبته، فيا له من مجتمع! ويا له من إنسان! وأين هي تلك الإرادة الإلهيّة والإسلاميّة الموجودة في النّاس لإصلاح المفاسد وإزالتها وجعل المجتمع مجتمعًا إلهيًّا؟ فهل أنّ مثل هذا الشّيء سيكون ممكنًا؟
يروي "الجاحظ" أو لعلّه "أبو الفرج الأصفهانيّ" أنّ معاوية توجّه إبان حكمه إلى مكّة راكبًا فرسًا، وكان أحد الوجهاء إلى جانبه يومها، ومعاوية منهمكٌ في الحديث معه ويتبعهما آخرون. كان معاوية يُحدّث هذا الرجل متفاخرًا بأمجاده وأمجاد أبيه "أبي سفيان" في الجاهليّة. وكانت مجموعة من الأطفال تلهو في الطّريق، وعلى ما يبدو كانوا يلعبون بالأحجار. وفي تلك الأثناء أصاب حجرٌ جبهة ذلك الرّجل المرافق لمعاوية فسالت الدّماء منها لكنّه لم ينبس ببنت شفة ولم يقطع على معاوية حديثه، فأخذ يتصبّر بينما كانت الدماء تسيل على وجهه ولحيته. وفيما كان معاوية يسهب في الحديث، وإذ به يلتفت إلى صاحبه فيرى الدّماء قد غطّت وجهه، فقال له: إنّ الدماء تسيل من جبهتك، فأجاب الرجل معاوية: أدماءٌ تسيل من جبهتي؟! أين ومتى؟ فلشدّة انبهاره بمعاوية، تظاهر بعدم إحساسه بإصابة الحجر وجرحه وسيلان الدّم من جبهته. فقال له معاوية: عجبٌ لك، أصاب الحجر جبهتك ولم تشعر به! فأجاب: كلّا، لم أشعر به، ثمّ ضرب يديه وقال: واه، إنّه دمٌ! ثم أخذ يُقسم بنفس معاوية وبمقدّساته: لو لم تخبرني، لما شعرتُ بجريان الدّماء لِما في كلامك من حلاوة! فسأله معاوية: كم هو عطاؤك من بيت المال؟ فأجابه: كذا ـ على سبيل المثال ـ قال معاوية: لقد ظلموك، فلا بدّ أن يُزاد أضعافًا ثلاثة! هذه هي الثّقافة الّتي كانت سائدة في الجهاز الحكوميّ لمعاوية.
الذين كانوا يُمسكون بزمام الأمور في تلك الفترة هم الأشخاص الذين كانوا يتزلّفون للزّعماء والخلفاء، فلم تكن الأعمال تُقسّم على أساس الصّلاح والكفاءة، وعادة العربيّ كانت أن يعطي أهميّة بالغة للأصل والنّسب، حيث كان يسأل: ذاك الشّخص من أيّ عشيرة هو؟ ومن هم آباؤه؟ إلّا أنّ هؤلاء حتّى الأصول والأنساب لم يكونوا يراعونها...
وفي زمن عبد الملك وبعض أولاده، تمّ تنصيب شخص باسم يوسف بن عمر الثقفيّ واليًا على العراق لمدّةٍ طويلة، وقد بقي حاكمًا وواليًا على العراق لسنوات. وكان معقّدًا وشقيًّا. ومن نافل ما يُنقل عن عقدته أنّه كان قصير القامة، فكان عندما يُعطي قطعة القماش للخيّاط كي يخيطها له، يسأل الخيّاط: هل تكفي هذه القطعة لقامتي؟ فكان الخيّاط ينظر إلى هذه القطعة من القماش، فإذا قال مثلًا إنّها مناسبة لك أيّها الأمير وربّما تزيد، كانوا يأخذون منه ذلك القماش فورًا ويأمرون بمعاقبته. فأدرك الخيّاطون القضيّة، فصاروا عندما يعرض عليهم قطعة القماش ويسألهم ما إذا كانت تكفي لهيكله أم لا، يردّون: كلا، يبدو أنّها لا تكفي ويلزمنا كثير من الجهد لكي نجعلها تتّسق مع بدنك الضّخم. فكان يسرّه ذلك، رُغم علمه بكذب الخيّاط! لقد كان أحمق إلى هذا الحدّ! إنّه ذلك الرجل الّذي قتل زيد بن عليّ عليه السلام في الكوفة. فمثل هذا، تسلّط على نفوس النّاس وأموالهم وأعراضهم لسنوات. فلم يكن يملك لا الأصل ولا النّسب ولا العلم ولا القابليّة، لكن لقربه من قطب السّلطة فقد عُيّن لهذا المنصب، وهذا وبال، ومن أعظم الآفّات الّتي تفتك بأيّ نظام.
المصدر: كتاب إنسان بعمر 250 سنة، للامام الخامنئي، الفصل الخامس : الإمام الحسن (ع)